إقتصادمصارف

المصارف اللبنانية وتحدّي استعادة الثقة!

 

السفير عفيف أيوب
يشعر الدبلوماسيون اللبنانيون بالألم عندما يتحدثون عن الوضع الحالي للمصارف اللبنانية، بعد أن كانوا ينظرون إلى القطاع المصرفي على أنه أحد أبرز الوجوه الإيجابية للاقتصاد اللبناني. وكان للسفراء اللبنانيين دورٌ في تسهيل زيارات بعض أصحاب المصارف اللبنانية إلى الخارج وترتيب اللقاءات لهم مع المسؤولين الأجانب المعنيين بالشأنين المالي والاقتصادي ومع فعاليات الجاليات اللبنانية في تلك الدول.
أثبتت المصارف اللبنانية نجاحها في أوقات الوفرة المالية منذ الستينيات من القرن الماضي وحتى العام 2014، حين بدأت تظهر الآثار السلبية للسياسات المالية والنقدية التي اعتمدها مصرف لبنان بالتزامن مع استفحال حالات فساد في بعض الوزارات الحيوية استنزفت الخزينة العامة لسنوات عديدة. وزاد من حدّة ذلك تفاقم أزمة النزوح السوري إلى لبنان وما رتّبه ذلك من أعباء كبيرة على البنية التحتية. ويُقدّرُ للمصارف اللبنانية استمراريتها في تقديم الخدمات المالية دونما انقطاع أثناء الحرب في لبنان (1975-1990) وفي فترات الأزمات السياسية والأمنية التي شهدها الوطن خلال الخمسين عاماً الماضية. لكن، عندما انخفضت السيولة النقدية في العامين 2019-2020، لم تتصرّف إدارات المصارف بحكمة وجرأة تتناسب وحجم التحدّيات التي تواجهها، وغابت عن التفاعل والتواصل مع المودعين ومع الرأي العام اللبناني للحفاظ على الحد الأدنى من الثقة في العلاقة بين المواطن والمصرف. ولم يتفهّم أصحاب المصارف أنّ نتائج قرارتهم لن تمسّ الأفراد فقط، بل ستأخذ أبعاداً أكبر وأوسع لتضرب الأمان المالي للشعب اللبناني برمّته. 
وقد قامت المصارف، وبصورة مفاجئة، باتخاذ قرارات غير مسبوقة شكّلت صدمة كبيرة للمودعين، ما أدى إلى إرباكهم في مرحلة أولى، والقضاء على مصالحهم المهنية وعلى خططهم الشخصية والعائلية وأحلامهم وطموحاتهم في مرحلة ثانية. ومهما كانت مبرّرات أصحاب المصارف، فإنهم تصرّفوا بأسلوب مغاير للتقاليد المصرفية، وابتدعوا وسائل تمنع المودع من استرداد وديعته في وقت استحقاقها، وتم وضع حد أقصى للسحوبات بالليرة اللبنانية وبالدولار الأميركي. ثم بات من غير الممكن لاحقاً الحصول على أي مبلغ من الوديعة بالعملة الأجنبية. كما اتفقت المصارف على عدم تمكين المودع من إجراء تحويلات إلى الخارج لتسديد الالتزامات العائلية أو المهنية إلّا بشروط شبه مستحيلة. وإذا ما حاول المودع اللجوء إلى القضاء، كانت المصارف تُصدر شيكاً بالوديعة غير قابل عملياً للصرف والتسييل. وقد حصلت كل هذه الاجراءات في ظل غياب شبه كامل للسلطة السياسية وتقاعسها عن حماية مصالح مواطنيها.
وهكذا أصبح كل مودع، حتى ولو كان ممن يُعتبرون من ميسوري الحال أو من الطبقة المتوسطة، أمام تحدّي تأمين المصروفات الشخصية والمستحقات المتوجبة للسكن والطبابة وتعليم الأبناء وتسديد القروض، ويكاد لا ينجح بذلك إلّا بشقّ النفس. ولم يقتصر الضرر على الشأن المادي فقط، فقد شعر كل مودع بالإذلال والمهانة كلما ذهب إلى المصرف ليطالب بالجزء اليسير من حقوقه. وفي الوقت نفسه وجد موظفو المصارف أنفسهم في حال مواجهة يومية مع الزبائن، وعانى معظمهم من ضغوط نفسية كبيرة خاصة وأنهم أصبحوا بلا حول ولا قوة للتجاوب مع مطالب المودعين.
لقد تأخّرت المصارف اللبنانية عن القيام بالخطوات المناسبة في التوقيت الصحيح. وكان يجب عليها أن تتوقف منذ زمن عن شراء سندات الخزينة وإبقاء ما يكفي من رأسمالها مسيّلاً ومتوفّراً لخدمة زبائنها وتلبية احتياجاتهم الحيوية. فكل مواطن لبناني سواء كان صاحب مهنة حرّة أو أستاذاً أو موظفاً عاملاً أو متقاعداً  أو أكاديمياً أو طبيباً أو محامياً أو مهندساً أو إعلامياً أو مغترباً أو رجل أعمال أو صاحب مؤسسة صحية أو تربوية أو ثقافية أو هندسية أو تجارية أو صناعية أو زراعية أو سياحية أو استشارية، وضع خططاً للحاضر وللمستقبل على أساس حرية الوصول إلى ماله الخاص. وما يسري على المواطن اللبناني، يسري كذلك على الزبائن الأجانب الذين وثقوا بالقطاع المصرفي اللبناني على مدى عقود من الزمن.
كما أخطأت المصارف اللبنانية حين لم تُصارح المودعين ولم تُهيّئ القسم الأكبر منهم لما يُتوقع أن تكون عليه الأمور، في الوقت الذي سهّلت فيه للقلّة من زبائنها نقل أموالهم إلى الخارج. ورغم معرفة أصحاب المصارف بالواقع الصعب واحتمال حجز أموال المودعين، فقد استمروا في السعي لاجتذاب ودائع جديدة، حتى أن بعض مدراء المصارف كانوا حتى صيف عام 2019 يجولون في دول الاغتراب اللبناني لتشجيع المغتربين على نقل أموالهم إلى المصارف في لبنان.
كان العمل المصرفي في لبنان مبنياً على معادلة بسيطة: المصرف يجذب المال من المودع بفائدة معينة، ومن ثم يقوم بإقراض هذا المال إلى زبون آخر بفائدة أعلى، والفرق ما بين رقمي الفائدة يُمثّل أرباح المصرف ويُغطّي مصاريفه التشغيلية. ومع الأخذ بالاعتبار الدور النشط الذي لعبته المصارف اللبنانية في التمويل العقاري، فإنّه لم يكن من أولويات برامج عملها الدخول في الاستثمار المنتج الذي يدعم الاقتصاد الوطني على المدى الطويل. لقد سلّم المودعون أموالهم للمصارف على أساس أن أصلها مضمون ومردود الفائدة عليها واضح حسب الآجال المتفق عليها، وأن المصرف يلتزم تأمين السيولة الكافية لتلبية حاجات المودعين بناءً لما ينص عليه القانون. أمّا ماذا يفعل المصرف بهذا المال فهو، وفق المتعارف عليه عالمياً، شأنٌ خاصٌ بالمصرف ويتحمّل المسؤولية الكاملة عنه. فصاحب القرار في المصرف يجني الأرباح لنفسه إن نجح في الاستثمار، ويتحمّل لوحده الأعباء إن باء استثماره بالفشل. وليس للمودعين أن يدفعوا أثمان القرارات والسياسات التي اعتمدها أصحاب المصارف. 
عندما يتخلّف أحد الزبائن عن سداد قرض للمصرف، تُسارع إدارة المصرف إلى طلب إلقاء الحجز على ممتلكات هذا الشخص ضماناً لاسترداد قيمة الدين. وقد أظهر المودعون قدراً كبيراً من التسامح عندما تخلّفت المصارف عن إعادة ودائعهم إليهم أو منعتهم من التصرّف بحساباتهم الجارية. وعلى إدارات المصارف الاستفادة من أجواء التسامح والتفهّم القائمة حالياً للإعلان عن التزامها إعادة الودائع إلى أصحابها وفق جدول زمني واضح وقابل للتحقّق. وليس هناك أدنى شك أن بإمكان المصارف اللبنانية الاعتماد على الكفاءات اللبنانية المحلية لوضع الرؤى المناسبة للبدء بعملية الانقاذ، إن هي اختارت هذا المسار.
إن من مصلحة أصحاب المصارف، إحداث تغيير في النهج والمقاربة، حيث أن أموال المودعين هي ملكيّات خاصة أكّد الدستور اللبناني على احترامها وفق البند (و) من مقدمة الدستور الذي ينص على أن "النظام الاقتصادي حر يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة". وإنّ على أصحاب المصارف التحرك فوراً، وبكل الوسائل القانونية والقضائية المتاحة، لمنع أي مساس بالاحتياط الإلزامي في مصرف لبنان الذي يعود للمودعين حصراً، وليس لحاكم مصرف لبنان أو أية جهة أخرى الحق بالتصرف بأي جزء منه تحت أي مبرر. ويتحمّل أصحاب المصارف مسؤولية خاصة بهذا الصدد إن هم تخلّفوا عن القيام بالخطوات المناسبة بصورة عاجلة.
ويخطئ أصحاب المصارف اللبنانية إذا اعتقدوا أن التوجّه نحو العملة الرقمية والدفع الالكتروني سوف يُنسي الزبائن مرارة معاناتهم الحالية ويُخفّف من المشكلات التي ترمي بثقلها على المصرف والمودع في آن معاً. إنّ من الأفضل لأصحاب المصارف المبادرة سريعاً لاعتماد خطط مدروسة تُعيد الدفء إلى العلاقة بين المصرف والمواطن وتُطمئن المودع إلى حفظ وديعته والقدرة على التصرّف بها. وربما تستطيع المصارف اللبنانية، من خلال هذه المقاربة الجديدة، أن تستعيد ثقة المودعين، الذين يمثلون قطب الرّحى في النشاط المصرفي، وتعود إلى سابق صورتها وفق ما يطمح إليه كل حريص على هذا القطاع الحيوي الذي يُشكّل سنداً أساسياً لعملية النمو الاقتصادي في لبنان.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى