ثقافةفي مثل هذا اليوم

في مثل هذا اليوم رحل أبو العلاء المعري: شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء..”رهين المحبسين” وصاحب “رسالة الغفران”

 

الحوار نيوز – خاص

في مثل هذا اليوم (20 أيار 973 ) توفي الشاعر والمفكر والأديب والفيلسوف أبو العلاء المعرّي الذي كان شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء ،والذي ترك ثروة أدبية وفكرية عظيمة خلدت اسمه في التاريخ

 هو أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ اَلْقُضَاعِي اَلتَّنُوخِي اَلْمَعَرِّي الشهير اختصارًا بِـ”أَبِي اَلْعَلَاءْ اَلْمَعَرِّي”، وهو شاعرٌ ومُفكِّر ونحويّ وأديب وفيلسوف من كبار أعلام الحضارة الإسلاميَّة عُمومًا وأحد أعظم شُعراء العرب والعربيَّة خُصُوصًا. وُلد ومات في معرَّة النُعمان من أعمال حلب شماليّ الشَّام، ونُسِب إليها فصار «المعرِّي»، وكان غزير الأدب والشعر، وافر العلم، غايةً في الفهم، عالمًا بِاللُّغة، حاذقًا بِالنحو. عاش أغلب حياته خلال العصر العبَّاسي الثاني الشهير بِـ«عصر نُفُوذ الأتراك» الذي شهد عدَّة اضطرابات سياسيَّة نتيجة ضعف سُلطة الخُلفاء واستبداد القادة التُرك بِالأمر، وانتقال الدولة من نظام الحُكم المركزي إلى اللامركزي، فانعكست هذه الأوضاع في أدبه وشعره.

نشأ أبو العلاء في بيت علمٍ وقضاءٍ ورياسةٍ وثراء، حيث تولَّى جماعةٌ من أهله القضاء في الشَّام، ونبغ منهم قبله وبعده كثيرون وصلوا لِلرياسة ونبغوا في السياسة، وكان فيهم عُلماء وكُتَّاب وشُعراء.

 أُصيب أبو العلاء بِالجدريّ صغيرًا فعمي في السنة الرابعة من عُمره، لكنَّهُ رُغم عاهته هذه تعلَّم النحو واللُّغة العربيَة على يد والده وبعض عُلماء اللُّغة من أهل بلده، فأصبح ضليعًا في فُنُون الأدب حتى إنَّه قال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة.

 تزعم روايات عدة أنَّ أبا العلاء ارتحل إلى بضع بُلدان طلبًا لِلعلم، أبرزها بغداد التي أقام فيها سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى بلده ولزم منزله، وعمل في التصنيف، وكان إذا أراد التأليف أملى على كاتبه علي بن عبد الله بن أبي هاشم. وأدَّى اعتزال أبي العلاء لِلناس أن لُقِّب بِـ«رهين المحبسين»، أي محبس العمى ومحبس البيت.

عاش أبو العلاء مُتقشفًا زاهدًا في الدُنيا، وكان يُحرِّم إيلام الحيوان، ولم يأكل اللحم خمسًا وأربعين سنة. وكان يلبس خشن الثياب. ويرى العديد من الأدباء أنَّ التشاؤم غلب على أدبه وشعره، حتَّى قيل أنَّهُ لم يتزوَّج كي لا يُنجب أولادًا يُعانون مُرَّ الحياة. وعلَّل البعض تشاؤمه بِالمقام الأوَّل لِذهاب بصره مُنذُ الصغر إضافةً إلى موت والديه وفقره الشديد، يُضاف إلى ذلك عيشه في زمنٍ مليءٍ بِالفساد بِكُلِّ أشكاله الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة، نتيجة الضعف الذي أصاب الخلافة العبَّاسيَّة كما أُسلف. كما قيل بأنَّهُ آمن أنَّ حياة الإنسان كُلِّها بِيد القدر ولن يستطيع التخلُّص منها، وفي نهاية المطاف لن يصل إلَّا للموت كما مات من سبقه من الخلق، فلم يعد يرى في الحياة تفاؤلًا لِعجزه عن تذوُّق جمالها وبهجتها بِعينيه. وقد نفى أُدباءٌ وباحثون آخرون هذه التُهمة عن أبي العلاء.

تعدَّدت آراء الباحثين والدارسين والمُؤرِّخين بِخُصُوص إيمان أو إلحاد أبي العلاء، فمنهم من يقول إنَّه كان زنديقًا مُلحدًا، ومنهم من يقول إنَّه كان على غايةٍ من الدين. العديد من المصادر الأجنبيَّة، بعضها مما كتبه المُستشرقون، تُؤكِّد أنَّ أبا العلاء كان ناقدًا لِلأديان عامَّةً لا يُفاضلُ بين اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام والمجوسيَّة، وأنَّهُ كان رُبُوبيًّا. وقال بعضُ العُلماء المُسلمين مثل الإمام ابن كثير في البداية والنهاية، والإمام ابن الجوزي، أنَّ أبا العلاء كان زنديقًا حاقدًا على الإسلام، وأيَّد هذا الرأي عُلماءٌ مُعاصرون مثل الشيخ عائض القرني. ودافع عُلماءٌ آخرون عن أبي العلاء قائلين إنَّهُ كان سليم العقيدة، منهم على سبيل المِثال الحافظ السلفي، والإمام الذهبي، وقال آخرون مثل ابن الوردي أنَّ المعرِّي كان في بدايته زنديقًا فعلًا ثُمَّ تاب ورجع إلى الإسلام في آخر عُمره. ومن المُعاصرين المُدافعين عن صحَّة عقيدة أبي العلاء: محمود مُحمَّد شاكر وعبد العزيز الميمني وبنت الشاطئ، وغيرهم.

ترك أبو العلاء خلفه ديوانًا شعريًّا من ثلاثة أقسام: سقط الزند، ولُزُوم ما لا يلزم المعروف بِـ«اللُزوميَّات»، وضوء السقط. وقد تُرجم كثيرٌ من شعره إلى غير العربيَّة. وأمَّا كُتُبه فكثيرة، لعلَّ أهمُّها “رسالة الغُفران“.

كما ترك المعرِّي خلفه مُؤلَّفات كثيرة تُقارب المائة في جوانب مُختلفة من الفُنُون والعُلُوم والآداب، منها دواوين شعريَّة، ومنها رسائل وشُرُوح، ومُؤلَّفاتٍ في أبوابٍ من عُلُوم العربيَّة كالنحو والصَّرف والعُرُوض وغير ذلك. وقد ضاع أكثر هذه المُؤلَّفات ولم يسلم إلَّا أقلُّها، ذلك لأنَّ الهجمة العاتية التي شُنَّت على أبي العلاء في العُصُور التي تلت عصره جعلت الناس ينفرون من مُؤلَّفاته ويُناصبونها العداء، ورُبَّما دفعت الكثيرين منهم إلى إتلافها وإبادتها. أمَّا مؤلَّفاته الباقية المطبوعة والمخطوطة فهي:

وتعد رسالة الغفران من أجمل ما كتب المعري في النثر، وهي رسالة تصف الأحوال في النعيم والسعير والشخصيات هناك، وقيل أن دانتي أليغييري، صاحب الملحمة الشعرية الكوميديا الإلهية أخذ عن أبي العلاء فكرة الملحمة ومضمونها . وقد طبعت مرات عدة وكانت من أهمها النسخة المحققة من قبل الدكتورة عائشة عبد الرحمن وقد أصدرتها بدراسة وافية لرسالة الغفران مع تحقيق لرسالة ابن القارح التي تعتبر المفتاح لفهم الغفران.

 

وتعتبر “رسالة الغفران” من أعظم كتب التراث العربي النقدي وهي من أهم وأجمل مؤلفات المعري، وقد كتبها رداً على رسالة ابن القارح ،وهي رسالة ذات طابع روائي حيث جعل المعري من ابن القارح بطلاً لرحلة خيالية أدبية عجيبة يحاور فيها الأدباء والشعراء واللغويين في العالم الآخر، وقد بدأها المعري بمقدمة وصف فيها رسالة ابن القارح وأثرها الطيب في نفسه فهي كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ،ثم استرسل بخياله الجامح إلى بلوغ ابن القارح للسماء العليا بفضل كلماته الطيبة التي رفعته إلى الجنة ،فوصف حال ابن القارح هناك مطعماً الوصف بآيات قرآنية وأبيات شعرية يصف بها نعيم الجنة، وقد استقى تلك الأوصاف من القرآن الكريم مستفيداً من معجزة الإسراء والمعراج، أما الأبيات الشعرية فقد شرحها وعلق عليها لغوياً وعروضياً وبلاغياً.

ويتنقل ابن القارح في الجنة ويلتقي ويحاور عدداً من الشعراء في الجنة من مشاهير الأدب العربي، منهم من غفر الله لهم بسبب أبيات قالوها. وشعراء الجنة منهم زهير بن أبي سلمى والأعشى وعبيد بن الأبرص والنابغة الذبياني ولبيد بن أبي ربيعة وحسان بن ثابت والنابغة الجعدي.ثم يوضح قصة دخوله للجنة مع رضوان خازن الجنة ويواصل مسامراته الأدبية مع من يلتقي بهم من شعراء وأدباء، ثم يعود للجنة مجدداً ليلتقي عدداً من الشعراء يتحلقون حول مأدبة في الجنة وينعمون بخيراتها من طيور وحور عين ونعيم مقيم. ثم يمر وهو في طريقه إلى النار بمدائن العفاريت فيحاور شعراء الجن مثل «أبو هدرش» ويلتقي حيوانات الجنة ويحاورها ويحاور الحطيئة. ثم يلتقي الشعراء من أهل النار ولا يتوانى في مسامرتهم وسؤالهم عن شعرهم وروايته ونقده، ومنهم امرؤ القيس وعنترة بن شداد وبشار بن برد وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد والمهلهل والمرقش الأكبر والمرقش الأصغر والشنفرى وتأبط شراً وغيرهم. ثم يعود من جديد للجنة ونعيمها.

 

 

في الشعر

ولعل من روائع قصائد العرب هي قصيدة أبو العلاء المعري “تعب كلها الحياة”، والتي تصفُ أصل الوجود ومغازيه الظاهرة والخفيّة، وخلاصة فكر المعري في الموت والحياة، فالقصيدة كغرض شعريّ تصنّف في المراثي حيث كتبها المعري في رثاء الفقيه الحنفيّ أبي حمزة. وفي هذه القصيدة يصور أبو العلاء المعري الحياة مجرّدة بلا بهرجات، وخاليةً من المعنى والعمق، ويعتمد الشاعر الصدق في التعبير، فهو يقدّم خواطره وحكمته بجرأة وعمق، وهذه بعض أبياتها:

 

غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي

نوح باكٍ ولا ترنم شاد

 وشبيهٌ صوت النعيّ إذا قِيـ

س بصوت البشير في كلّ ناد

أبَكَت تلكم الحمامة أم غـ

 نّت على فِرْعِ غُصنٍها الميّاد

 صاحِ هذي قُبورُنا تملأ الرُحبَ

فأين القبور من عهد عاد

خفّف الوَطْءَ ما أظنّ أَدِيْمَ الـ

أرض إلا من هذه الأجساد

وقبيحٌ بنا وإِنْ قَدُم العهدُ

هوانُ الآباء والأجداد

سِرْ إن اسطعت في الهواءٍ رُوَيداً

 لا اختيالاً على رُفات العباد

رُب لحدٍ قد صار لحداً مراراً

ضاحكٍ من تزاحم الأضداد

ودفينٍ على بقايا دفين

في طويل الأزمان والآباد

فاسأل الفَرْقَدين عمّن أحسّا

من قبيلٍ وآنَسا من بلاد

 كم أقاما على زوال نهار

 وأنارا لمُدْلِج في سواد

تعبٌ كُلّها الحياةُ فما أعـ

جبُ إلا من راغبٍ في ازدياد

 إنّ حزناً في ساعة الموت

أضعاف سرورٍ في ساعة الميلاد

 خُلق الناس للبقاء فضلّت

 أمّة يحسبونهم للنّفاد

 إنّما يُنقَلون من دار أعما

 لٍ إلى دار شِقوة أو رَشَاد

 ضَجعة الموتِ رَقْدَةٌ يستريح الـ

 جسمُ فيها والعيْشُ مثلُ السُّهاد

 

وفاته وقبره

كانت الأوصاب والعلل تنتاب أبو العلاء حينًا بعد آخر، وقد أشار في مواطن من شعره إلى ما بلغ به مُرُّ الزمان وتعب الحياة، وما كان يعتوره من العلل .وفي رسالته إلى داعي دُعاة الفاطميين المُؤيَّد في الدين الشيرازي يذكر أبو العلاء أنَّهُ صار مُقعدًا:  “وَمُنِيَتُ فِي آخِرِ عُمْرِي بِالْإِقْعَادِ، وَعَدَانِي عَنْ اَلنَّهْضَةِ عَاد

ولا يُعرف ما هو المرض الذي تُوفي به أبو العلاء. وَكَانَ مَرَضُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمَاتَ فِي اَلْيَوْمِ اَلرَّابِعِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ غَيْرِ بَنَي عَمِّهُ، فَقَالَ لَهُمْ فِي اَلْيَوْمِ اَلثَّالِثِ: اُكْتُبُوا. فَتَنَاوَلُوا اَلدُّوِيَّ وَالْأَقْلَامِ، فَأَمْلَى عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلصَّوَابِ. فَقَالَ اَلْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدْ: أَحْسَنَ الله عَزَاءَكُمْ فِي اَلشَّيْخِ، فَإِنَّهُ مَيِّتٌ. فَمَاتَ فِي غَدَاةِ غَدِهِ . واختلفت كلمة القوم في يوم وفاته،  غير أنَّ أبا العلاء لمَّا قارب الموت أوصى أن يُكتب على قبره هذا البيت:

هذ جناه أبي علي

وما جنيت على أحد

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى