إقتصاددراسة

هدر الوقت وآثاره على الإنتاجية والإبداع..وهذا هو الحل (عماد عكوش)

 

بقلم  د. عماد عكوش – الحوارنيوز

يُعتبر القطاع العام في اي دولة  جزءا أساسيا من الناتج القومي، وتتراوح نسبة مشاركته في الناتج القومي ما بين دولة وأخرى بقدر ما تكون هذه الدولة قد قامت بعملية خصخصة لقطاعها العام او لا ، وبقدر نسبة الخصخصة التي قامت بها الحكومات .

تُشير نسبة ناتج القطاع العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، إلى مدى مساهمة القطاع العام في الاقتصاد الوطني، وتختلف هذه النسبة بين الدول بناءً على سياسات الإنفاق الحكومي ودور القطاع العام في الاقتصاد . ففي الاتحاد الأوروبي في عام 2019 ، بلغ إجمالي الإنفاق الحكومي 46.6% من الناتج المحلي الإجمالي ، مع تباين بين الدول الأعضاء. فمثلًا، أنفقت فنلندا 24% وفرنسا 23.9% من ناتجها المحلي على الحماية الاجتماعية ، بينما كانت النسبة في أيرلندا 8.9%. .

  وتختلف نسبة الإنفاق الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي بين الدول العربية والأوروبية ، ما يعكس دور القطاع العام في اقتصادات هذه الدول . ففي الدول الأوروبية في عام 2023 ، بلغ متوسط الإنفاق الحكومي نحو 49.5% من الناتج المحلي الإجمالي.

وفي الإمارات العربية المتحدة عام 2021 ، بلغت نسبة الإنفاق الحكومي العام إلى الناتج المحلي الإجمالي 31.3% بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي ، مع توقعات بانخفاضها التدريجي إلى 29% بحلول عام 2026.  وتُظهر هذه الأرقام أن نسبة الإنفاق الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي تختلف بشكل كبير بين الدول، ما يعكس سياسات الإنفاق العام وأولويات الحكومات المختلفة.

انطلاقا من هذه المعطيات فإنه من المفترض ان يكون القطاع العام داعما للناتج القومي وليس عقبة في طريق تطوره ونموه، كما يحصل في لبنان اليوم حيث يُعدّ الوقت أحد أهم الموارد الاقتصادية التي يمتلكها أي مجتمع ، وإهداره في الإجراءات البيروقراطية داخل الدوائر العامة يشكل خسارة فادحة على المستوى الفردي والوطني . ويعاني المواطنون يوميًا من التعقيدات الإدارية والتأخير غير المبرر في إنجاز معاملاتهم ، ما يؤثر سلبًا على الناتج القومي ، والإنتاجية الشخصية ، والإبداع ، وحتى الصحة النفسية .

ان لجوء المواطنين وبشكل يومي الى الوقوف في طوابير على ابواب المؤسسات العامة والدوائر الحكومية، ليس فقط يؤدي الى الفساد والمحسوبيات ، بل يؤدي ايضا الى تأثيرات متعددة منها :

أولًا: تأثير هدر الوقت على الناتج القومي

كل دقيقة يقضيها المواطن في طوابير الدوائر الحكومية هي دقيقة مهدرة من وقته الإنتاجي. عندما تتكرر هذه الدقائق لتتحول إلى ساعات وأيام، فإن ذلك يؤدي إلى تراجع انتاجية العامل أو صاحب العمل الذي يهدر وقته في إنجاز معاملات بسيطة، يخسر ساعات عمل يمكن استغلالها في الإنتاج أو تقديم خدمات مفيدة ما يؤدي الى إضعاف النشاط الاقتصادي .

إن تراكم الإجراءات البيروقراطية تؤخر المشاريع الاستثمارية ، ما يقلل من حركة رأس المال ويضعف القدرة التنافسية للدولة ، كما ان هدر الوقت يؤدي الى زيادة التكاليف التشغيلية وزيادة النفقات على الشركات ، التي تضطر إلى تخصيص موظفين لإنجاز الإجراءات ، أو دفع رشاوى لتسريع المعاملات.

ثانيًا: الأثر على المواطن وإنتاجيته

البيروقراطية المفرطة لا تؤثر فقط على الاقتصاد الكلي، بل تمتد لتنعكس على حياة الأفراد اليومية. فإضاعة وقت وجهد المواطن الذي يضطر لزيارة أكثر من دائرة حكومية ، والانتظار لساعات ، يؤدي الى خسارة فرص يمكن للمواطن ان يستغلها لتحقيق دخل اكبر ، كما ان الإحباط واللامبالاة يؤدي الى شعور المواطن بالعجز عندما يرى أن إنجاز أبسط المعاملات يتطلب جهدًا يفوق المتوقع، ما يدفعه إلى فقدان الحافز للإنتاج والعمل بجدية ، كما يؤدي هذا الاحباط الى زيادة حافزية هجرة العقول. فالكفاءات تفضل مغادرة البلاد بحثًا عن بيئة عمل أكثر كفاءة، ما يحرم الاقتصاد من العقول المتميزة.

ثالثًا: الأثر النفسي والإبداعي على المواطن

الإجراءات الحكومية المعقدة لا تستنزف الوقت فقط، بل تؤثر أيضًا على الحالة النفسية والعقلية للأفراد. فالتوتر والضغط النفسي الناتج عن الانتظار الطويل وعدم وضوح الإجراءات يسببان مستويات عالية من القلق والتوتر .. هذا القلق الدائم يؤدي الى قتل الإبداع والمبادرة ، فعندما يكون النظام الإداري عائقًا أمام الابتكار، فإن الأفراد يميلون إلى التكيف مع الجمود بدلاً من البحث عن حلول جديدة ، كما يؤدي ذلك الى ضعف الثقة بالمؤسسات فكلما زادت تعقيدات الدوائر الحكومية، كلما فقد المواطنون الثقة في قدرة الحكومة على تحسين أوضاعهم.

كيف يمكن تجاوز هذا الهدر؟

لمعالجة هذه المشكلة، يجب تبني إصلاحات إدارية تعتمد على تقليل البيروقراطية وتسريع إنجاز المعاملات من خلال:

-     تبسيط الإجراءات الحكومية

-     إلغاء الشروط غير الضرورية، وتقليل عدد الوثائق المطلوبة.

-     تقليل عدد التواقيع والموافقات المطلوبة لإنجاز المعاملات.

-     توحيد الإجراءات بين الوزارات المختلفة لضمان عدم تكرارها.

-     رقمنة الخدمات الحكومية عبر إطلاق منصات إلكترونية تمكّن المواطنين من إنجاز معاملاتهم عبر الإنترنت دون الحاجة إلى زيارة المكاتب الحكومية.

-     استخدام التوقيع الرقمي: للحد من الحاجة إلى التواجد الشخصي لتوثيق المعاملات.

-     تعزيز الذكاء الاصطناعي في المعاملات الحكومية: لاختصار الوقت وتجنب الأخطاء البشرية.

-     تعزيز الشفافية والمحاسبة من خلال مكافحة الفساد الإداري عبر أنظمة إلكترونية تحد من التدخل البشري في القرارات الحكومية.

-     قياس الأداء الحكومي من خلال مؤشرات أداء واضحة تقيس سرعة الإنجاز وجودة الخدمات المقدمة.

-     تمكين المواطن من تقديم الشكاوى والمقترحات إلكترونيًا لمعالجة المشكلات فور وقوعها.

ان البيروقراطية المفرطة في القطاع العام ليست مجرد عائق إداري ، بل هي مشكلة اقتصادية واجتماعية تهدد الإنتاجية والإبداع. فهدر الوقت في إنجاز المعاملات ينعكس على الناتج القومي حتما ، ويؤثر سلبًا على المواطن وحياته المهنية والشخصية. الحل يكمن في تبسيط الإجراءات، وتبني الرقمنة، وتعزيز الشفافية. الوقت ليس مجرد رقم، بل هو حياة اقتصادية يجب استثمارها بكفاءة.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى