“ما زلت هنا ” يحصد جائزة الأوسكار: فيلم يؤرخ للديكتاتورية البرازيلية ويعيد للذاكرة ما يرخيه الاعتقال من صمت وحضور الغائب

هدى سويد ـ إيطاليا – الحوارنيوز
“ما زلت هنا” هو عنوان فيلم تم عرضه مؤخرا في الصالات الإيطالية، دعتني متابعته لاسترجاع ما حصل ، ما مضى والقائم في واقعنا العربي الراهن.
تدور أحداث الفيلم البرازيلي (إخراج والتر ساليس) في ريو دي جينيرو عام 1971 حيث تدخل زمرة مسلحة دون انذار الى منزل دون ترخيص من أي جهة قانونية لاعتقال النائب السابق روبنز بايفا (أداء سيلتون ميلو) الذي يعيش مع زوجته أونيس (أداء فيرناندا توريس ) وأولاده الخمس .
هي المرحلة التي غاب عنها المشهد السياسي بعد إنقلاب وسيطرة الديكتاتورية العسكرية سنة 1964 التي دامت لغاية 1985 أي حوالي 21 عاما ، وتعتبر نموذجا شبيها بالديكتاتورية التي سادت أميركا اللاتينية، منها الأرجنتين وغيرها في قارات وبلاد أخرى كأوغندا،أنغولا،موزامبيق ، كما في بعض أنظمة عالمنا المعروفة ، ولم يتم اعتراف هذا النظام العسكري بجرائمه وإدانته إلا في العام 2014، أي بعد سقوطه بحوالي ثلاثين عاما ، حيث أكدت الجهات القانونية أن النظام بمعرفته الكاملة يتحمل قتل واختفاء حوالي 434 شخصا، وان كان النشطاء اعتبروا ان الرقم اكبر بكثير، كما ويضم قتل حوالي 8000 من البرازيليين الأصليين ، حيث استخدم النظام العنف ووسائل وحشية للتخلص من النشطاء السياسيين كدفنهم في مقابر جماعية أو إلقائهم من متن الطائرات في عمق البحار دون أن يترك أثرا عن مصيرهم .
لست هنا في معرض الناقد للفيلم، وإنما وجدتني أمام ما حمله الفيلم من أبعاد سياسية، جمالية فنية دفعتني للتوقف قليلا عند أبرز المحطات المؤثرة . وفي هذا الصدد أقصد عمّا أرخاه في الذات إعتقال بل اختطاف روبنز، ذنبه أنه كان ناشطا سياسيا .
صحيح أن الفيلم يروي استنادا إلى رواية الإبن الصحافي والكاتب مارسيلو بايفا، حادثة اعتقال روبنز في القسم الأول ، لكنه يركز فيما بعد بأحداثه المختلفة على الزوجة مسلّطا الضوء على هوية المرأة التي تعرضت أيضا للتعذيب والسجن وابنتها البكر، بعد اعتقال زوجها ، بهدف الضغط عليهما كي تشيا بأسماء ناشطين، لتتحول المرأة رغم آلامها إلى رمز للصمود والنضال بشخصيتها الفريدة الفولاذية كزوجة وأم محتضنة لأولادها مستمرة قدما ناشطة ما بين مركز أمني وآخر،مع الأصدقاء والصحافة لمعرفة مصير زوجها ، الذي لم يعد رغم مرور السنين ولا يصلها أي خبر من أخباره ، شأن كل الأسرى في عالمنا اليوم الذين ما زالوا في أقبية التعذيب منذ سنين ، أو تتم مبادلتهم والإفراج عنهم عادة من السجون الإسرائيلية استنادا للصفقات كالفلسطينيين أو اللبنانيين ، ناهيك عن المحجوزين في بعض السجون العربية .
ليس بالضرورة الحديث عن براعة المخرج ومصداقيته (وبالتالي براعة الممثلين دون استثناء وفريق العمل ) في نقل المرحلة بمصداقيتها ودراماتيكيتها السوداء في مساحات مغلقة تنتشر وتتوزع ما بين المكتب ، غرف النوم ، السيارة ، الشارع ، البحر والشاطئ على مقربة من البيت النزهات والرحلات ، إنما تستند وتستمد ذكرياتها من ذاكرة كاميرا العائلة التي عملت على نقل مناخ حياتها الطبيعية الموزعة، كما أشرت ما بين المساحات المغلقة ، منتجة صورا وأفلاما استطاع ساليس من خلالها صقل التجربة بشفافية تامة ، باعتباره وكونه صديقا لبايفا منذ الطفولة ويعرف العائلة تماما ، ما مكن الفيلم الخروج من حيز موهبة المخرج النظرية إلى الحيز الحياتي لسيرة العائلة ، نشاطه السياسي والمرحلة الديكتاتورية بإشارات وتلميحات مباشرة وغير مباشرة مميزة للعنف .
الفيلم حصد الأوسكار وأكثر من جائزة، وفي هذا الصدد أود القول أنه قد كتب الكثير عن فيرناندا التي حصلت على جائزة أفضل ممثلة ، لكن مما لا شك فيه أن الدور المميز الذي لعبه سيلتون في الجزء الأول بكل ما تضمنه من أحداث غنية متسارعة مبنية ومشغولة بعناية، وما أفاضه وعكسه الممثل المميز (مخرج، ممثل ومدبلج حاز سابقا على أكثر من جائزة) من أجواء فرح وغبطة وعلاقة جميلة مع زوجته وأبنائه، وتحديدا بناته كأب يناقش صغاره ، يراقص بناته ، حضوره في السهرات واللقاءات العائلية والأصدقاء ، النزهات ، كل ذلك يلفت الأنظار بدوره الطبيعي المسالم المتماسك ـ كما قدمه المخرج ـ في إطار علاقاته وحياته الاجتماعية، دون المبالغة في القاء الضوء على نشاطه السياسي. وحسنا فعل المخرج لأن النشاط سري ، وفجأة يُحدث غيابه القسري في القسم الثاني للفيلم صدمة وفراغا يمكن تحسسهما، ويمكن فهم العنوان المختار للفيلم ” أنا ما زلت هنا “، لأنه مع غيابه يبقى روبنز لغزا وحاضرا قائما وجوده حتى في ظل عدم معرفة مصيره .
ثلاثة أمور جميلة كئيبة استوقفتني: الأولى الطريقة الهادئة في ارتداء روبنز لملابسه وكأنه متوجه إلى مناسبة ترفيهية لا إلى مناسبة لإعتقاله ، الثانية الحمام التي قامت به أونيس لجسدها بعد الإفراج عنها، ثالثا استلام أونيس لشهادة الوفاة . في العادة عندما يستلم المرء شهادة وفاة لفرد من العائلة ينتابه حزن أو بكاء وغصة ، لكن فيرناندا أو أونيس ضحكت، إنما هي الضحكة بعد صراع وعذاب مرير مع الخبر والمصير، ضحكت فيرناندا عند استلامها الشهادة التي تؤكد وفاة الزوج روبنز ، الشهادة إنما بمثابة طعن وإدانة للنظام الديكتاتوري وتأكيد مسؤوليته في قتل روبنز وأخفائه ، ما يعيد إلى الذهن مشهد تخمينات العائلة عن اليوم الذي تمت فيه وفاة الأب قبل استلامهم شهادة الوفاة ، فيخمن أحدهم أنه حين ارتدت الأم اللون الأسود ، بينما يقول آخر عندما قررت الأم الإنتقال من بيت العائلة إلى بيت ومنطقة أخرى في البرازيل !
*Io sono ancora qui / Ainda estou aqui
* الفيلم حاز على جائزة الأوسكار عام 2025 كافضل فيلم عالمي وعلى كل من جائزة افضل ممثلة ( أول ممثلة برازيلية حازت على الجائزة) وأفضل سيناريو .