ثقافةفنون

رحيل مهى نعمة: مؤلم شهر نيسان(كريم دكروب)

د. كريم فخر دكروب -الحوارنيوز

خلال أيام الحرب القاتمة، قرأ والداي خبراً في الجريدة عن نشاط ابداعيّ فريد في النادي الثقافي العربي. كان نهار سبت من عام ١٩٧٩ حين دخلت محترف مهى نعمة  وقد كان عمري ٩ سنوات، ولم أخرج منه حتى اليوم.

في محترفها رسمتُ وكتبتُ وصنّعتُ الدمى ومثّلتُ وأخرجتُ وغنّيتُ وكتبتُ الأغاني ولحّنتها. هناك اختبرتُ الابداع بأحرفه الأولى وبنيت أحلامي البدائية، وهناك تجرأت على مناقشة أمور الفنّ مع غازي مكداشي وأحمد قعبور وزياد الرحباني وسليم سحاب وعبيدو باشا وغيرهم. هناك اختبرت أولى خطوات الاستقلالية حين كنت أخرج من البيت بعمر ١٠ سنوات، وأركب السرفيس لوحدي وأتنشّق هواء شارع الحمرا لوحدي، وآكل منقوشة بربر وأنظر الى واجهات المسارح والسينمات لوحدي بتشجيع جريء من أهلي.

برفقة مهى نعمة وطأت خشبة المسرح للمرة الأولى، وجلست خلف ميكسر الصوت للمرة الأولى، وتسلّقت جسور الإضاءة فوق مسرح الأونيسكو (قبل تدميره عام ١٩٨٢) للمرة الأولى.

بعد أن ساءت الأحوال وتفاقمت الظلامية والطائفية في بيروت غادرت مهى الى باريس برفقة ابنها هشام لتبني حياتها الجديدة. لكنها لم تبتعد عني، وتابعت كلّ خطواتي، من أنشطة مسرح الدمى التي أقمتها على خطوط التماس وفي الملاجئ، الى دراستي المسرح في موسكو ثم في سان بطرسبورغ، وصولاً الى تأسيس مسرح الدمى في لبنان.

عام ١٩٩٣ سافرتُ مع مسرحية تخرجي من روسيا لأعرضها في شارلوفيل في فرنسا، وتعرّفت على أنوار باريس برفقة مهى، وكأنها كانت تبارك تخرّجي وتدفعني لتكملة المشوار، وتأسيس مسرح والحصول على الدكتوراه. بعد ذلك صار بيتها حضناً دافئاً لي ولعائلتي في باريس.

في كلّ مشاويرها الى بيروت، كانت تدخل خلسةً الى المسرح لتشاهد مسرحياتي من المقاعد الخلفية، ثم تظهر فجأةً بعد العرض بجسدها النحيل وظلّها الخفيف، لتنتقد وتقترح وتبني المشاريع المشتركة وتستعيد ذكريات الماضي. ثم تظهر في الصباحات على باب بيتنا مع مخططاتها لتأسيس جمعية لبنانية فرنسية للتربية الفنية، ومتحف لحفظ أعمال الأطفال ومركز لجذب الأطفال الى عالم الابداع والجمال. ولا تنسى أن تدخل في تفاصيل العائلة، وترصد المواهب لدى أولادي (زياد وجاد) وتتنبّأ بالانجازات التي قد يحققانها.

مهى كانت في البداية تشعر ببعض الذنب تجاه أمي التي كانت ترغب بأن أصبح مهندس الكترونيك، وبقيت تكرر التعبير عن هذا الشعور حتى السنوات الأخيرة. ثم في أحد الأيام، وبعد افتتاح أحد العروض تجرّأت ونظرت في عيون أمي قائلةً “ألم أكن محقّة في دفع كريم الى هذا العالم”؟ أجابتها أمي بإمتنان “أكيد… يسلموا دياتك”!

إذا كانت ليَ أمّ ثانية في هذه الدنيا فهي مهى نعمة… وقد فقدتها اليوم.

رحلت مهى بعد أسبوعين من رحيل أبي…

كم هو أليمٌ شهر نيسان..

* استاذ جامعي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى