رأي

قوة الحق ..أم حق القوة؟

    منذ فجر التاريخ سادت البشرية أدبيات سياسية واجتماعية وإنسانية أثبتت عقمها في معظم الأحيان ،وهي من طراز "الحق يعلو ولا يُعلى عليه" و " جولة الباطل ساعة ،وجولة الحق كل ساعة " و "النصر للحق في النهاية "، الى آخر هذه المنظومة من الامثال والحكم…ونادرا ما انتصر الحق أو الباطل خلال التاريخ إلا وكان أحدهما مدعوما بالقوة.
   تحضرنا اليوم هذه الوقائع ونحن نواجه تعسفا أميركيا لم يشهد له التاريخ مثيلا (آخره في فنزويلا) وهو مبني على حق القوة ،وليس قوة الحق،مستندا الى آلة عسكرية جبارة ،وثروة ليس لها حدود،وأجهزة دعائية وإعلامية متفوقة ،طباعية ومرئية ومسموعة.والأمثلة على ذلك كثيرة ،على الأقل في حياة جيلنا خلال العقود الماضية.
    ويبرز هذا التعسف قولا وفعلا من دون أدنى مستويات المواربة أو حتى  الخجل ،وتحت شعارات براقة لم تثبت صدقيتها مرة واحدة ،وأبرزها "نشر الديموقراطية في العالم " و "دعم حقوق الانسان" و"محاربة الإرهاب" وغير ذلك من تعابير الدجل المكشوف.
    يستطيع أي مسؤول أميركي مهما علا أو تدنى مستواه ،في أي بلد في العالم ،أن يطلق مواقف تصنف في اطار التدخل في الشؤون الداخلية لهذا البلد ،فيما يحاذر أي مسؤول أجنبي في الولايات المتحدة الأميركية مهما علا شأنه أن يمس بالشؤون الداخلية الأميركية .فمن أعطى أميركا مثل هذا الحق :هل هو قوة الحق أم حق القوة؟
    تتدخل الولايات المتحدة سياسيا وعسكريا ومخابراتيا في أي بلد في العالم لمجرد معارضة هذا البلد لسياستها ،ومن دون إجازة دولية ،بحجة غياب الديموقراطية ومخالفة حقوق الانسان ،في وقت تتغاضى عن دول أخرى تحت بيرقها ليس فيها من الديموقراطية وحقوق الانسان قيد أنملة .والنماذج كثيرة وعصية عن العد.
    تفتعل الولايات المتحدة أزمات مالية واقتصادية واجتماعية في أي بلد في العالم لاخضاع شعب هذا البلد وحكامه للنظرية الأميركية التي تقوم على الاستتباع والاستلحاق والاستحواذ والاستيلاء على الثروات .
     يُعتبر الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، الرئيس الأكثر صدقا وصراحة في تاريخ الولايات المتحدة ،بل هو الرئيس الأقل خجلا  من اسلافه.فهو يحاكي العالم بلا مواربة ،بعقله التجاري الصريح ،وهو العقل الامبراطوري الحقيقي للولايات المتحدة منذ رحل المؤسسون الأوائل لهذه الدولة الكبرى.
   يعتبر الدستور الأميركي من أرقى الدساتير في العالم ،وبموجبه تحتضن الولايات المتحدة غرباء من كل شعوب الأرض بحرية ليس لها مثيل ،فلا يعاير أميركي آخر الا بمقدار وصول باخرة جده الى الأرض الجديدة قبل باخرة جد الآخر.ومع ذلك تمارس الولايات المتحدة بغيها وجبروتها على كل شعوب الأرض خارج أراضيها.
    أنتجت الولايات المتحدة في فترة زمنية قليلة عقولا فذة جعلتها تتفوق علميا وتقنيا وعسكريا وفي معظم المجالات الحياتية،لكنها أنتجت في الوقت نفسه عقولا في السياسة قادتها أحلامها المريضة الى استعمار العالم  وفرض ارادتها عليه،وقهر شعوبه، إما بالقوة العسكرية ،وإما بالاستتباع المذل،وفي الحالتين بالاستيلاء على الخيرات .
    ثمة من يبرر بأن الولايات المتحدة ليست جمعية خيرية شأنها شأن كل دول العالم .ولكن بقليل من السذاجة نسأل:ما الذي يمنع الولايات المتحدة من أن تكون جمعية خيرية ما دامت تملك كل هذه القدرات والقيم الدستورية في آن معا،فتنصر المعذبين في الأرض الذين فتحت ذراعها لهم على أرضها طوال نصف ألفية من الزمن؟
   وبكثير من الفطنة نجيب:إنه الغرور والتجبر والطمع الذي جعل أميركا تغلّب حق القوة على قوة الحق.وثمة امبراطوريات كثيرة حكمت بحق القوة فسادت ثم بادت بعدما تفسخ بنيانها الداخلي.ولسوف تجد الولايات المتحدة يوما ما ،في زمن ما ، أن حق القوة ليس قدرا محتوما لها وحدها، شأنها شأن الامبراطوريات الغابرة .وإن غدا لناظره قريب!

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى