سياسةمحليات لبنانية

عندما تتقدّم الغرائز لدى الغالبية من اللبنانيين بواسطة وسائل التواصل كافة

 

لا تسمع في لبنان كلمة واحدة مسؤولة تشفي غليل الناس الطافشة منذ ثلاثة أشهر في مشاعيات الإدارات المنهوبة. إذن؟؟؟ إنّ الظاهرة المرعبة والطاغية هي مستويات التواصل التحقيرية البديلة لمناظر أهل السلطات كما الأصنام في نشرات الأخبار. هنا يتكدّس الفشل والإستعصاء السياسي في واقعٍ مر يرمى فوق حرائق الإتصال وموجاته المتنوعة.
لقد حطّ لبنان نهائياً في مشاعيات الضياع والفوضى العارمة التي تسمح بتبادل الإلغاء حتّى الدموي والحيواني بين الناس.
هناك فوران هائل للحاجات وللغرائز عبر شاشات التلفزة والواتس أب والفيسبوك والتويتر يأخذ الاتصال معه معنىً حسياً، فيتحوّل البحث إلى حقل الحواس والحماس. إنّه الحقل الوحيد الذي تتزوّد به الكائنات الأخرى بما يحقق البقاء. البقاء يتقدّم في حياة اللبنانيين، وتبرز الحواس وسائط إنقسام وقتال كلامي وفعلي ومناكفات يُعاد إحياؤها في التعبير والكتابة وتحقيق الذات الهلامي كأننا في معبر حروب عالمية.
يبدو الاتصال اللبناني إذن محشوراً وفجّاً وحاجةً ملحّة يجب أن يتمّ إشباعها، أساساً، بما يقرّبها من الاتصالات المعروفة التي تكشف ما يحتضنه علم السلوك من الفجاجة والقوة في التعبير وتقدّم الغرائز وصولاً إلى القتل اليومي غير المبرّر.
يحيلنا البحث في هذه الظاهرة إلى الاتصالات غير الشفوية La communication non verbale في تمييزها المنهجي عن الاتصال اللغوي حيث لا يكفي امتلاك اللغة للكلام أو التعبير، لأنّ اللغة، في هذا الإطار، هي النموذج المنتقى والراقي في الاتصال، وهي التي تميّز الانسان عن سائر الكائنات أو هي التي أخرجت الإنسان من الكائنات الأخرى المفترسة.
تشمل الاتصالات الثورية المتنوعة والشائعة في لبنان الأصوات العالية والحركات الجسديّة العدائية والايماءات والإشارات العدائية ونبرات الصوت والتنفس والشتائم العلنية والصراخ وغياب البشاشة وكلُّها مركونة برأيي بالغريزة الأولى الطاقة المحرّكة، بينما يجب أن تتطوّر لدى الإنسان فتظهر وتختفي بين حدَّي الصمت الكثير والايجاز والقول الكثير والتهذيب الذي يبدو غائباً عن عالمنا الضيق.
يصبح الاتّصال في العام، ثقافة تختلف باختلاف الشعوب، وتخضع لبيئاتهم الجغرافيّة وعاداتهم ومستوياتهم العلميّة والحضاريّة. ونظنّ أنّه كلّما اتجهنا من الجنوب صوب الشمال بردت حرارة الأجساد البشرية في عملية الاتصال، وتراجعت في تفاصيلها غير الشفوية وحتى الشفوية منها. الاتّصال، إذاً، سلسلة من حركات تسبق اللغة، تحدّد فيما بعد تطوّر وردود فعل الأفراد والجماهير عن طريق الانفعالات البيولوجيّة.
قد لا يمكن تعميم صفة الثبات لاعلى المخلوقات كلِّها ولا على البشر في حالات المكومة بالخوف والإنهيار والتدمير كما هو حاصل بسكلٍ عام في لبنان. وهنا تذكر العلوم الحديثة مثلاً أن القردة، تتصل فيما بينها بواسطة 15 إلى 20 صرخة مختلفة مصحوبة بالإشارات وهي ثابتة، بينما تنحصر أصوات الدجاج في عشرة أنواع من الأصوات تمثّل قاموس اتصالاتها. وقد لوحظ، علمياً، أن هذه الأصوات قد انخفضت إلى سبعة. ويعزو العلماء ذلك إلى فرضيّة تأثّر هذه الطيور بتقنيّات التفقيس الصناعي التي فجّرت منظومة الغريزة فأورثتها تحوّلات مهمّة. يُضاف إلى هذه المسألة الهامّة التأثيرات التقنيّة التي يمكن الإشارة إليها في عالم قفير النحل الذي يتراقص ويفاهم أعضاء مجتمعه الشديد التنظيم  اتصالياً في ثماني رقصات أمام القفير تنبعث منها أصوات أو طنينٌ يفسّر بُعدَي المسافة والاتجاه نحو الزهور، أو الغذاء المكتشَف من قِبَل العاملات. وتتحدّد هذه المسافات، غرائزياً، بين مئة متر و6 كلم ترسمها إنحناءات جناحَي النحلة العاملة، ممّا يشكّل زوايا توازي الزوايا المشكّلة من تقاطع أشعة الشمس مع ظلال النحلة على القفير. الملاحظ، أن إطعام النحل السكّر المذاب الجاهز على باب القفير، قد خربط أنظمة الإتصال الغرائزيّة لدى النحل وفق متغيّرات تشكل حقولاً دراسيّة علميّة حول أثر التقنيّات في التأثير على الغريزة الحيوانيّة وتحوّلاتها.
يندرج هذا الطرح في اعتبار تنظيم الاستجابات وتهذيب المشاعر وقوننة الميول الرموز الأساسية الضروريّة من أجل الفهم والتكيّف والتعبير عن الذات لغويّاً مسائل جوهرية تبدو اليوم خارج المناخ الإعلامي في لبنان، وهذا يعني أو يفرز مدى الضيق وتفاقم المشاكل المتنوعة التي تعصف بلبنان في طلّ غياب كامل لأيّ قرارٍ يطفئ نيران المعاناة والمخاطر المتدرجة في لهيبها.
وفق هذه النظرة أو الملاحظة في التعبير عن الذوات والمواقف تغيب اللغة الراقية الفاعلية وتتقدّم اللغات الانفعالية الممثّلة لنقطة البداية في التعبير وتختلط معها لتؤلّف مناخاً قاسيا من الكلام الفجائيّ الذي يكسو التعبير عن محنة لبنان ومحن إعلاميّه ومفكريه وثورييه المزروعة حتى الآن بالحاجات الكثيرة الصلبة والفجة التي تلوّن صورة لبنان المتعب في المشهد الوطني والعربي والعالمي. وتصبح الحالة الشعورية نظماً مخيفة ومؤذية تفرزها وسائل ومؤسسات تبدو وكأنها طرائق للإحتفاظ بالوجود تفادياً لمخاطر القلّة والجوع والفقر وبيع الأعضاء والهجرة والقتل والإنتحار وحرق المؤسسات والنشل والتسول وكي لا ننهي المقالة بالكوارث نقول في ظلّ غيابٍ كامل لمن يقدّم فكرة أو جملة مفيدة تخرجنا من هذا الجموح الغرائزي الذي يصاحب الإنهيار ويمنح الإجازة الوطنية للتفكير والعقول.

*أستاذ الإعلام السياسي مشرف على طلاّب الدكتوراه.
المعهد العالي للدكتوراه.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى