ثقافةكتاب

التنمية والفقر: مراجعة نقدية للمفاهيم وأدوات القياس للباحث أديب نعمة

الحوارنيوز –خاص

يتابع الباحث أديب نعمة تعمقه في قضايا التنمية والفقر وفي البحث عن الأسس العلمية – المادية  لهما.

وليس البحث في عوالم التنمية والفقر لمجرد البحث، أو لإضافة كتاب جديد الى المكتبة العربية، فالنسبة للباحث نعمة  فإن البحث مرتبط بالإستراتجيات المتبعة في نقد التجربة التنموية وأهدافها في ضوء القضية المركزية وهي معالجة ظاهرة الفقر كشكل من أشكال الظلم الإجتماعي وعدم التوزيع العادل للثروة.  

كتاب موسوعي يجمع بين نقد المفاهيم النظرية والتجربة، إنطلاقا من تقارير عملية صادرة عن جهات رسمية وطنية وأممية مخولة.

 وفي بطاقة تعريف عن الكتاب جاء أنه “…في القرون الوسطى في أوروبا، تعبير الفقر/الفقير Pauper كان يقابله تعبيرPotens   أي القوي لا تعبير Rich أي الغني…”. والفقير في لسان العرب هو: “المكسور الفقار ويضرب مثلا لكل ضعيف…”. وهذا الجذر اللغوي المشترك بين الفقر وبين فقرات العمود الفقري لا يزال صداه موجودا في التعبير الشعبي حيث يوصف الشخص الضعيف/الفقير بأن “ظهره مسكور” او بأنه “بلا ظهر” أي بلا سند.

يسير الكتاب وفق منهج نقدي وسجالي ويراجع عددا كبيرا من الدراسات ابتداء بنقد النتائج وصولا الى نقد مناهج القياس والمقاربات النظرية، مع تخصيص فصلين مستقلين في القسم الأول من الكتاب للجوانب النظرية لتعريف التنمية وتعريف الفقر.  وفي الجانب التطبيقي تضمن الكتاب مراجعة نقدية مباشرة لـ 35 تقريرا ودراسة عن الفقر (من التسعينات الى عام 2019)، ومن ضمنها التقارير الصادرة عن الدول العربية.

هذا الكتاب له فائدة مباشرة بالنسبة الى طلاب العلوم الاقتصادية والاجتماعية والتنمية وأساتذتهم، وكذلك بالنسبة الى الممارسين ممن يعملون في هذا المجال في المنظمات الدولية او منظمات المجتمع المدني، او في المؤسسات الحكومية وصانعي السياسات، الذين يجدون فيه امثلة مباشرة لتقارير عن بلدانهم، إضافة الى التحليل النظري غير التقليدي للفقر.

وتوضيحا لمضمون الكتاب ورؤية الباحث نعمة، تنشر”الحوارنيوز” النص الكامل للمقدمة بقلم نعمة.

مقدمة

“الفقر من منظور حقوق الانسان ليس مشكلة اجتماعية؛ انه انتهاك لحقوق الانسان. وهو ليس حالة او صفة؛ انه فعل قصدي مولّد للفقر (إفقار) صادر عن جهة او مؤسسة او نظام اقتصادي واجتماعي”.

وجدت هذه الجملة (الفكرة) مكتوبة على أوراق ملاحظات تعود الى مشاركتي في مؤتمر دولي عن “الابعاد المتعددة للفقر” عقد في البرازيل عام 2005، فيما كنت انجز هذا الكتاب المخصص بالدرجة الأولى لمراجعة نقدية مفصلة لعدد غير قليل من التقارير والدراسات الدولية والإقليمية والوطنية عن الفقر وقياساته، لاسيما القياسات متعددة الابعاد. ان انتاج مقاربة متسقة وعملية لمقاربة الفقر ودراسته وقياسه من منظور حقوق الانسان لا تزال في بداياتها، وهو ما يتجاوز مضمون هذا الكتاب وهدفه، وإن كانت المقاربة الحقوقية حاضرة فيه، بما في ذلك في عرض ونقد بعض التجارب المحددة التي تعتمد هذه المقاربة (ومنها تجربة في فلسطين).

نشأت فكرة الكتاب في سياق عملي الطويل في منظمات الأمم المتحدة في مجال التنمية والفقر والسياسات الاجتماعية، حيث كانت تدور نقاشات وسجالات متعددة، وحيث كانت لي تجارب عملية مباشرة في مجال انتاج دراسات عن الفقر في البلدان العربية او المساهمة فيها بشكل عضوي. كان بعضها من التجارب المبكرة إقليميا وعالميا في اعتماد القياس متعدد الابعاد للفقر الذي يتجاوز قياس الفقر النقدي (اول تقرير صدر في لبنان عام 1998)، وهو ما تحول اليوم الى اتجاه مقبول على نطاق واسع، لاسيما مع تحول برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (2010) والبنك الدولي (2018) الى مثل هذه القياسات.

يسير الكتاب وفق منهج نقدي وسجالي ويراجع عددا كبيرا من الدراسات ابتداء بنقد النتائج وصولا الى نقد مناهج القياس والمقاربات النظرية، مع تخصيص فصلين مستقلين في القسم الأول من الكتاب للجوانب النظرية مع العلم ان البعد النظري حاضر في كل فصول التقرير. مثل هذه الأسلوب له فائدة مباشرة بالنسبة الى الطلاب والى الممارسين ممن يعملون في هذا المجال، وكذلك بالنسبة الى صانعي السياسات او مستشاريهم الذين يجدون فيه امثلة مباشرة مستقاة من تقارير عن بلدانهم او عن بلدان أخرى، من شأنها ان تقترح مسارات مختلفة او أفكار لبدائل أحيانا. وقد تمت مراجعة 35 تقريرا ودراسة عن الفقر في هذا الكتاب صادرة في الفترة الممتدة من التسعينات الى عام 2019، ومن ضمنها أحدث الدراسات التي صدرت عن مؤسسات دولية، او عن دول عربية.

 يبدأ الكتاب بفصل اول مخصص لعرض تطور مفهوم التنمية البشرية وصولا الى الاجندة التنموية العالمية الحالية (اجندة 2030 للتنمية المستدامة) التي جعلت القضاء على الفقر هدفا أولا لها. وهذا الفصل مكتوب بلغة وأسلوب مختلفين عن باقي الفصول حيث انه يشكل خلاصة تجربة عمل لمدة 24 سنة في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والاسكوا (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا) مع تقاطع لسنتين تقريبا في مشروع عمل مشترك مع البنك الدولي، في لبنان وفي المكاتب الإقليمية العربية. ولا يخفي النص الطابع النابع من التجربة الشخصية لهذا الفصل، لا بل هو يوظفه في خدمة الفكرة العامة للكتاب لجهة ربط الفقر بالتنمية بشكل عام، ولجهة تظهير الحدود التي يمكن ان يصل اليها النقد من داخل المنظومة (الأمم المتحدة) التي تعبر عن التيار الرئيسي في التنمية، وذلك عن معرفة ومشاركة مباشرة في هذه المسارات.

اما الفصل الثاني فهو قد خصص لجوانب نظرية في مقاربة الفقر وتعريفه وقياسه، من اجل تحريرها من هيمنة المقاربة الاقتصادية والنقدية والكمية والقياسية، وإدخال الفلسفة والأخلاق والاجتماع والأساليب النوعية والتشاركية بما هي الإطار الاشمل الذي يجب ان تدرج دراسات الفقر في اطاره. ويعني ذلك الدعوى الى التحول من النظر الى الفقر بما هو تجريد رقمي كمي، الى كونه يتعلق بالناس وبالفقراء وبديناميات الافقار، وبالفقر بما هو حالة نوعية وانتهاك لحقوق الانسان، وربطه باللامساواة والسياسات المولدة للاستقطاب والتفاوت. ويؤسس هذا الفصل للقاعدة النظرية للنقد العملي التفصيلي الذي تتضمنه فصول الكتاب من مراجعة مباشرة ومحددة للتقارير والدراسات لجهة المنهجية وتصميم الادلة القياس والمؤشرات والنتائج على حد سواء.

وفي اللحظة الراهنة التي ما زلنا نعيش فيها انتشار جائحة الكورونا في العالم وفي بلداننا، فإن هذا النقاش النقدي يكتسب اهمية متزايدة، لا بل يدفع الى نقد التنمية والاقتصاد الى ما يتجاوز النقد من داخل المؤسسة الى ما هو ابعد من ذلك، نظرا لأن ازمات اليوم المركبة (السياسية – البيئية – الصحية) ترتقي الى مستوى التهديد الحضاري الشامل، وتعيد الاعتبار الى علوم الفلسفة والأخلاق والتاريخ في مقاربة مشكلات عصرنا، وأولها التناقض الحاد بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية لمخرجات عملية الإنتاج، الذي حسمه التطور الرأسمالي النيوليبرالي بشكل فج لصالح القيمة التبادلية، اي لصالح المنفعة والربح على حساب الحاجة والفائدة، وهو ما يشكل احد الاسس العميقة للأزمة الحالية التي ساهمت جائحة كورونا في كشفها، والتي يدفع ثمنها الناس مزيدا من الإفقار والحرمان.

ثمة وظيفة اخرى لهذا الكتاب، تتعلق بتقديم مساهمة عربية في الإنتاج التنموي العالمي. ويلاحظ في هذا الصدد ان حضور البلدان العربية في الدراسات العالمية ضعيف مقارنة بالأقاليم العالمية الأخرى، بما في ذلك في مجال التنمية والفقر. ولا يعود هذا النقص الى ان معظم التقارير لا تعتبر البلدان العربية اقليما واحدا وحسب (الشرق الأوسط وشمال افريقيا هو التصنيف الأكثر شيوعا)، بل تعود حصة من المسؤولية الى البلدان العربية نفسها ومؤسساتها، حيث انها قليلة الإنتاج المعرفي مقارنة بأميركا اللاتينية مثلا او آسيا مثلا، او انها لا تعتبر موضوعا مفضلا وحقل اختبار للمؤسسات الدولية كما حال افريقيا. وتتمثل واحدة من اهداف الكتاب في اظهار جانب من المساهمات العربية في دراسات الفقر (والتنمية) التي لا تقل أهمية عن المناطق الأخرى، لاسيما في الموجة الأولى من دراسات الفقر بما هو ظاهرة متعدد الابعاد وقياسه على هذا الاساس اعتبارا من عام 1998، التي تكشف عن وجود عناصر تشابه وتأثر بينها وبين تجربة اميركا اللاتينية، والتي تتضمن عناصر تجديدية غير قليلة الأهمية وربما تتجاوز بعض التجارب العربية الحديثة جدا التي تحاول اقتباس الأدلة العالمية دون اجتهاد كبير (مثلا تجارب منهجية الحاجات الأساسية غير المشبعة، او المقاربة الحقوقية، او قياس الفقر الذاتي، او قياس الفقر بالمشاركة…الخ، وهي كلها دراسات نفذت في بلدان عربية في فترات سابقة وتمثل تراثا غنيا ومتنوعا لا بد البناء عليه).

 

تكوين الكتاب

في هذا السياق، اتى الكتاب في ستة اقسام.

  • القسم الأول خصص للبعد النظري، وفيه فصلان عن التنمية، والإطار النظري لدراسة الفقر.

  • القسم الثاني خصص لمراجعة التقارير الدولية، وفيه ثلاثة فصول عن تقارير اوكسفورد، والبنك الدولي، واليونيسف.

  • القسم الثالث خصص لمراجعة التقارير الإقليمية العربية وفيه 4 فصول تتناول قضايا منهجية، ثم نتائج المنطقة العربية في تقرير اوكسفورد، ثم تقرير الاسكوا، وتقرير اليونيسف، وتجربة من منطقة مجاورة.

  • القسم الرابع خصص لمراجعة التقارير الوطنية المتأثرة بمنهجية اوكسفورد وتشمل سوريا، المغرب، العراق، فلسطين، ليبيا، السودان، وفق منهجيتي اوكسفورد، واليونسيف، بالإضافة الى تجربة فلسطين من منظور الحقوق.

  • القسم الخامس خصص لمراجعة التقارير الوطنية في الموجة الأولى التي اعتمدت منهجية الحاجات الأساسية غير المشبعة والتي شملت لبنان والعراق والأردن، وتقرير إقليمي عربي؛ وفصل ثان ناقش مسائل منهجية إضافية وتجارب عربية للقياس الذاتي للفقر والدراسة التشاركية (مصر، لبنان، المغرب، العراق، الجزائر، فلسطين).

  • القسم السادس خصص لعرض بعض المقترحات الفنية في قياس الفقر، متبوعة بملحق يتضمن مراجعة نقدية لدراسة الفقر في فلسطين التي أصدرها البنك الدولة عام 2011.

أخيرا،

استغرق انجاز هذا الكتاب حوالي السنتين، وتطلب جهدا توثيقيا وتحليليا كبيرا. وقد حرصت على توفير الروابط الالكترونية للغالبية الساحقة من التقارير والدراسات التي تطرق اليها، وحيث لا يتوفر رابط اعتمدت على النسخ الورقية او الالكترونية المتاحة. وبهذا المعنى، وبغض النظر عن التحليل الذي يتضمنه والمنطلقات او الاستنتاجات التي يتضمنها والتي تعكس وجهة نظر المؤلف مما قد يتفق او يختلف معه القارئ، فإن التغطية الواسعة للتقارير العالمية والعربية تجعل للكتاب دورا مرجعيا يسهل على الباحثين والممارسين المعنيين بعض الجهد لأنه يمكنهم من التعرف على عدد كبير من الدراسات والتقارير، ومصادرها الاصلية، مجمعة في كتاب واحد. كما ان الكتاب يتوجه الى جمهور واسع نسبيا، لاسيما قسمه الأول الذي يخاطب جمهورا غير متخصص في مجال الفقر، وفي حين ان فصوله الأخرى أكثر تخصصا، الا انها أيضا موجهة للقارئ المهتم حيث ان فلسفة الكتاب أصلا هي نقد الفكرة القائلة ان دراسة الفقر شأن المتخصصين، في حين انها شأن عام أيضا.

آمل ان يكون هذا الكتاب قد نجح في ان يوصل رسالته، وان يكون مفيدا لمجتمعاتنا العربية وللباحثين والممارسين والمواطنين.

اديب نعمه

بيروت، حزيران/يونيو 2020

  • *اديب نعمه (لبناني، 1956). عمل مستشارا في التنمية والسياسات الاجتماعية ومكافحة الفقر، لدى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والاسكوا بين 1995 و2018. محام (نقابة طرابلس)، وحائز على دبلوم دراسات عليا في علم الاجتماع، واجازة في الفلسفة.

  • ساهم في تصميم دليل الحاجات الاساسية غير المشبعة الذي استخدم لقياس الفقر في لبنان وفي الدول العربية. صمم دليل الحرمان الحضري – طرابلس (2015).

  • أحدث كتبه “الدولة الغنائمية والربيع العربي” (2014)، و”التضامن الشعبي العربي: من النهضة الى الربيع العربي” (2016). نسق عددا من التقارير الإقليمية في مجالات مختلفة، وشارك في عدة مؤتمرات دولية وإقليمية. له عشرات المقالات والمساهمات المنشورة.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى