ثقافة

أم داود..

                      
قصة قصيرة بقلم حيدر شومان
… وأتردد وأنا أخط هذه الأسطر للحديث عن أم داود، مع أن رغبتي في ذلك كبيرة، وشوقي إليه عظيم… وتعاندني الذاكرة في أن أرسم للخيال طريقه على هذه الوريقات، مع أني لمَّا أزل أذكر جلَّ الحكاية التي سردت أم داود للأيام تفاصيلها، ورتَّلت للحياة أناشيدها. وأعذر نفسي وذاكرتي، فإن للمشاعر عظمة يعجز كل فن عن إدراكها وسبر غورها، بل يعجز حتى عن وصف الظلال التي رسمتها أشباحها، والآثار التي خلَّفتها أطيافها، والأصداء التي بقيت تحدث عن ماضٍ قريب أو بعيد يعيش صارخاً في الوجدان…                                                    وحيث إن العجز عن بلوغ المرام لا يعني النكوص أو التراجع، ولا التقوقع أو الاستسلام، أجدني أدخل معركة أعلم مسبقاً أنها خاسرة، لكن عزائي في مسعاي أنني لن ألوم نفسي غداً على عدم المحاولة.   
زرتها في بيتها لأول مرة بعد عودتي إلى لبنان آتياً من غربة تحمل في طياتها ولدها حسن… وسمعت صوتها يرحب بي وأنا أصعد درج المبنى، إلى أن وصلت إلى الطابق الرابع، حيث يسكن بيتها. بادرتني بالتحيات العطرة والكلمات المعظَّمة وكأني ولي من أولياء الله جاء ليبارك البيت وما حوله بقدسيته وطهارته، أو كأني أحد المقاومين العائدين من جبهات الجنوب بعد دحر العدو الإسرائيلي…                                                                       مشرقة الوجه، على الرغم من شيء من الوجوم يسكن وجهها، حاضرة الذهن، شديدة الانفعال، صاخبة في حديثها، ساخرة في كلامها، ذكاء فطري يفرض سطوته في ملامحها، وقوة تحطم الحواجز في عفويتها، وحزن دفين يتجلى صارخاً في مزاحها الدائم، وقلب كبير مفعم بالمحبة يحاكي الدمع المتلألئ دائماً في عينيها… لقد جبلتها النوائب، وعانقتها الخطوب، وغمرت حجب المحن سريرتها، فكانت أم داود…
اختارتها الصروفُ أرملةً شابة أثقلها غيابُ من رحل، وحمْلُ أطفال أربعة، كان اليتم عنواناً لوجودهم، والفقر طريقاً لعيشهم، ولم يبدُ من ملامح الغد سوى ظلمة لا تؤدي إلا إلى التيه أو الهلاك…
وكان لا بد لها من المواجهة، وذلك ليس خياراً يمكنها تجاوزه، بل إنه طريق حتمي لا بد من السير في غمراته. وكثيراً ما يكون انعدام القدرة على الاختيار أيسر للمرء لأنه يمنحه قوة أكبر في تحدي العوائق الماثلة أمامه حيث لا سبيل لغير ذلك. 
لم أكن أعلم قبل تلك الزيارة مدى عظمة صداقتي لحسن… لكن كان لتلك الصداقة ضريبةٌ فُرضت عليَّ ويجب أن أدفعها، وذلك في تناول الغداء حتى التخمة، وابتلاع تفاحتين بعده ولو من غير جوع، والتهام قطعة من البقلاوة شاءت معدتي أم أبت. ونجح توسلي لها في أن تعفيني من تناول القهوة أو الشاي وما جاد بيتها من غيرهما… لا تعجب فأنا صديق حسن…
سألتني عن أحواله برفعة لا تظهر حجم اشتياقها لصورته التي غابت عن ناظريها سنوات ثلاث. وأخذت تخبرني عن طفولته الهادئة التي تختلف أحوالها وصورها عن تلك التي يعيشها أترابه… كان شديد التعلق بها، كثير اللهفة عليها، يختصر الوجود في مجلسها، ويمتلك العالم بين يديها… كان إذا خرج للعب مع رفاقه يعود إليها في كل ساعة ليطمئن أنها في انتظاره، وأن طيفها يحاكي البيت الذي ينادي كل ما فيه باسمه. وسكتت للحظات قصار تكفكف دموعها، فبدت حزينة كاسفة البال، وأخذت بصوت خافت تلعن الغربة التي فرضت عليهما فراقاً لم يكن له أي داع… ثم أشرق وجهها فجأة بابتسامة كبيرة وبدأت تحكي عن الحماقات التي كان يرتكبها، لينقلب ابتسامها ضحكاً صاخباً يزيل كل كآبة أُثيرت من قبل، وكأنها تعيش تلك اللحظات الخالية من جديد… كان الماضي بكل ظلماته يحمل في نفسها الكثير من الصور الجميلة، وربما كان واقع الوحدة التي تعيشها أكبر من كل آهات الماضي لأن أولادها كانوا بينها…
ولماذا نقدِّس الماضي دائماً ونلوِّن صوره ونبرئ ساحته عندما نشكو الزمان وحاضراً  بات عيشه ضنكاً؟ لماذا لا نبقي في الوجدان سوى أخيلة دافئة حميمة، وننبذ كلَّ ما ذاقت الأنفس من مكاره وويلات؟ فهل للماضي أطر محدودة من الزمان نصدر فيها حكماً صريحاً واحداً؟ أم أن الحاضر فراغ لا يعيش الزمان في دائرته؟
ونظرت في صفحة وجهها الدافئ لأجد فيها سطوراً بارقة خافتة، صارخة صامتة، ومشاعر هادئة قلقة، مطمئنة مضطربة، وحياة عنوانها أولادها، ولكل منهم ذكريات ساحرة تبعث السكينة والأمن في نفسها، وحياة عنوانها أولادها، وقد فرقت الأيام شملهم بعد أن اختار كل منهم في طريق العمر سبيله، وبقيتْ في وحدتها تترقب أحوالهم، وتنتظر في كل حين عودتهم، لتحضن عندها ذكريات الماضي وصور الحاضر فتكتمل سعادتها.
كانت جاراتها تأتينها تترى، وقد اعتدن حياة هذا البيت الصاخب وصاحبته التي كانت أماً لهن في كرمها ومحبتها وعطفها، وفي تأنيبها لهن وصراخها عليهن، وفي إصدارها الأوامر الصارمة لكل منهن كي تقوم بواجبها، فواحدة تدخل المطبخ لصنع القهوة، وأخرى للقيام بواجب الضيافة، وواحدة لتنظيف الطاولة وما سقط على الأرض من بقايا الطعام، وأخرى لتزويدها بأخبار الحي والمنطقة وما طرأ من جديد.              
وتعجبتُ من تلك الروح التي استطاعت أن تهزم الزمان وتحتضن الناس وكأنها تمتلك العالم. كيف تلاشت آثار العذابات التي عاشتها في الماضي؟ كيف استطاعت أن تجعل كل ما حولها يعيش بهجة وحبوراً وصخباً، وقلبها ينبض باسم من سافر إلى ما وراء السنين القصية؟ 
كان حسن رضيعاً عند رحيل المعيل، وضاعفت المأساة من عطفها عليه وتعلقها به، فهو السراج الذي تقاوم به واقع الظلمات من حولها، والعين التي تظهر لها وضوح الطريق… كان رئتها لتتنفس، ونبضها لتشعر بالوجود، وحلمها كي لا تقفل أبواب الأمل، والليل لكي تنام، والحياة لكي تعيش.
نظرتُ في وجهها لأقرأ في سطورها حسن، الفارس الغائب عن ناظريها، الحاضر في صلاتها ودعائها، في نومها وانتباهها، في كل وجبة طعام يجلس فيها على ذلك الكرسي قدّامها، في القهوة التي يصنعها قلبها في كل صباح، وفي كل حيِّز للمكان في البيت، وكل هنيهة يعيشها يومُها.
لم يكن حسن يشبهها في شيء، هادئ الطباع، ساكن الملامح، لا يتكلم إلا إذا وجد في الكلام حاجة ملحة، لا تثيره المتغيرات من حوله، ولا يسكن الفضول نفسه، في وجهه عبوس قاتم ينفرك منه، وفي صوته نبرة حادة تصفعك، وفي ابتعاده عن الضوضاء ما يشعرك بأنه ينشد العزلة ويرغب عن الناس. لكن إذا عرفته، وجدته مرهف الإحساس، مطمئن البال، قانع النفس، يربكه الخجل فيعرض عن المواجهة، وتأسره أحلامه فيعرض عن زيف الواقع، يحب الناس وإن لم يبدِ مشاعره، ويسعى إلى الخير، وكثيراً ما تخفق محاولاته.
  وفي حكاية كل إنسان مأساة فقدان أمه… حكاية تربك روحه، وتدمي قلبه، وتزلزل كيانه، حيث تُغلَق نافذة طفولته، ويخبو صوت ترانيمها، وتُخدش ذاكرة الماضي لتصبح ألوانه شاحبة واهية… ويكون العزاء – وربما كِبَرُ المأساة – في أن الموت قدر يصيب الجميع، ولا سبيل إلا بالصبر الجميل والدعاء لرب العالمين…
أصيبت أم داود بمرض خبيث، وسافر حسن إليها لكي يمضي معها ما تبقى لها من أشهر في هذا الوجود.
كان فرحها بعودته أكبر من آلامها، وكأنها تبارك المرض الذي أعيا جسدها لكنه أبرأ روحها بعودة ولدها إليها، يناولها الدواء، ويطعمها بيده، ويسهر عليها طوال الليل… فهل حدد المرض موعداً لاجتماع الشمل؟ هل حدد الفراق موعداً للقاء؟
قال لي حسن مرة: " هل تعلم أن أمي هي مصدر قوتي في هذا العالم؟ "… وصمَتَ هنيهة عرفت أنه سيقول بعدها: " وهل تعلم أن أمي هي مصدر ضعفي في هذه الحياة؟ "…
وماتت أم داود… كان هول الصدمة أكبر من أن يتقبلها… كيف سيعيش في دنيا لا تتنفس أمه هواءها؟ كيف ستكون أحلامه وقد غابت عنها اشراقاتها؟ كيف وهل سيعود إلى لبنان مجدداً أم أنه سيستسلم للغربة لكي تبتلعه أكثر في هوتها السحيقة؟ هل سيعتاد العيش دونها؟ هل سينجح في طريقه دون دعائها الذي كان دائماً يرافقه المسير؟ إن في نفسه ما يثير فيها شعوراً بأن ما يعيشه حلمٌ لا بد أن ينتبه منه ليجد أمه إلى جانبه، تبتسم له، وتسخر من صبيانيته، وتضحك طويلاً لتدعوه بعدها إلى تناول الفطور وقد انتصف النهار…
ومضى عام على رحيل الغالية، وعلى وجه حسن ابتسامة حزينة، وقد أصبح للقائه بها طريق آخر يسلكه بحب ورضا، وذلك في الدعاء لها عند كل صلاة، ومناجاتها مع كل نسمة عليلة تقبِّله، وكل لمسة دفء تغمره، وكل ليل يحمل السكينة في طياته، وكل نهار يشد من أزره للسير في طريقه الرحيب… لم تمت الغالية لأنها تعيش فيه، يعيش فيها، يعيشان معاً في وجدان العمر الذي يحكي سنيّ اللقاء الطويلة بشغف وحنين، وينسى لحظات الفراق، لحظات الوداع، لحظات الموت، أوَليس الموت بداية الطريق، بداية الحياة؟؟؟
انتهت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى