دولياتسياسة

أميركا والتمييز العنصري:مؤسسة فكرية فلسفية لها جذورها التاريخية


كتب واصف عواضة:
كنا قد اعتقدنا أن الولايات المتحدة الأميركية ودعت التمييز العنصري الى غير رجعة، عندما انتخبت باراك حسين أوباما ،الأسود ذا الأصول الإسلامية ،رئيسا لأكبر وأعظم قوة سياسية إقتصادية عسكرية في العالم.لكن ما يجري اليوم في أميركا ،وما سمعناه ونسمعه من بعض المحللين والمفكرين ورجال السياسة الأميركية ،وما نشهده من عنف وردات فعل في كبريات المدن ،يعيدنا الى ما قبل زمن "محرر العبيد" الرئيس الراحل ابراهام لنكولن .
لقد سبق لمعامل السينما في هوليوود أن أتحفتنا بمجموعة من الأفلام التي يندى لها الجبين عن الفصول العنصرية التي مورست على السود في الولايات المتحدة في عهود مضت،وشهد القرن العشرين هذه الفصول بأم العين في جنوب أفريقيا التي خرجت من عهد الظلام على يد المناضل الراحل نيسلون ما نديلا.
وليس سرا أن الكثير من  الملونين السود ذوي الأصول الافريقية ما زالوا يشعرون بعقدة النقص والحقد معا تجاه البيض نتيجة هذه الممارسات اللاأخلاقية .وما يزال سائدا لدى الكثير من البيض تعبير "العبيد" (slaves) بديلا للإشارة الى الملونين السود.وقد كُتب الكثير الكثير عن عقدة التفوق لدى البيض على غيرهم من الملونين ،لدرجة أن بعض المحللين الطبيين تحدثوا عن فروقات جينية في عقول البشر،وزرعوا في أذهان البشرية نظريات لم تثبت صحتها نتيجة الابداعات التي حققها غير البيض في مختلف قطاعات العلوم والاختراعات وغيرها.
كانت للرئيس السنغالي الراحل ،الشاعر والمناضل والمبدع ليوبولد سنغور ،نظرية وجهها على صيغة رسالة الى البيض باللغة الفرنسية يقول فيها:
"أخي الأبيض،
أنا عندما ولدت ،كنت أسود..وعندما كبرت ،كنت أسود..وعندما أكون تحت الشمس،أكون أسود..وعندما أمرض ،أكون أسود..وعندما أموت أكون أسود.أما أنت أيها الرجل الأبيض:فعندما ولدت كان لونك زهريا..وعندما كبرت صار لونك أبيض..وعندما تكون تحت الشمس يصبح لونك أحمر..
وعندما يصيبك البرد تصبح أزرق..وعندما تمرض تصير أصفر..وعندما تموت تصبح رماديا..فمن منا هو الانسان الملوّن؟"
وثمة من يحمّل الأديان بعض المسؤولية عن التمييز العنصري،لكن الأدبيات الدينية كلها ،سماوية أو غير سماوية ،نبذت العنصرية ،وأجمعت على أن الإنسان أخو الإنسان ،من دون أي إشارة الى العرق واللون والعقيدة .
فقد خلق الله آدم وحواء وقال لهما:‏ «أثمرا واكثرا واملأا الأرض وأخضعاها».‏ (‏تكوين ١:‏٢٨‏)‏. وهكذا تحدَّر البشر جميعا من هذين الزوجين البشريين الاولين.‏ ولاحقا،‏ عندما محا الطوفان معظم سكان الارض،‏ نجا ثمانية اشخاص:‏ نوح وزوجته بالاضافة الى ابنائهما الثلاثة وزوجاتهم.‏ ويعلِّم الكتاب المقدس اننا تحدَّرنا جميعا من ابناء نوح.‏ (‏ تكوين ٩:‏١٨،‏ ١٩‏)‏.
وقد وضع يسوع المسيح مبدأ يوجه المسيحيين عندما قال لأتباعه:‏ "انتم جميعا اخوة".‏ (‏متى ٢٣:‏٨‏)‏ وقد صلى ان يكون أتباعه متَّحدين و مكمَّلين في واحد،‏ لا ان تقسِّمهم او تفرِّق بينهم العنصرية.‏ (‏ يوحنا ١٧:‏٢٠-‏٢٣؛‏ ١ كورنثوس ١:‏١٠‏).
أما المسلمون ،فالقرآن شاهد على نبذ العنصرية إذ جاء في متنه:"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
وقد جاءت السنة النبوية لتكمل هذا المنحى.ففي خطبة الوداع الشهيرة توجه النبي محمد الى أصحابه بالقول:"يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ. ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ،ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ،ولا لأحمرَ على أسْودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ، إلَّا بالتَّقوَى، إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ".
وفي رسالة "عهد الاشتر" للإمام علي بن أبي طالب :"الناس صنفان ،إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".
حتى أن اليهودية لا تميز بين الملونين،وقد كان أنصار موسى خليط من هؤلاء.لكن الصهيونية العالمية ضربت هذا المقياس عرض الحائط ،ويشهد على ذلك ما يمارسه الكيان الصهيوني من أعمال عنصرية في فلسطين المحتلة.
أمام كل ما تقدم يبدو التمييز العنصري صنيعة الانسان نفسه ،لما تتملك أفكاره من جنوح نحو الشر والبعد عن القيم .وخلال القرن العشرين،‏ تبنت فرق عديدة ايديولوجيات عنصرية.‏ وعلى سبيل المثال،‏ حاول النازيون ان يبرهنوا ان ثمة اساسا بيولوجيا لتفوُّق عرقهم  .‏
وعود على بدء،ليست العمليات العنصرية الوحشية التي تحدث بانتظام في الولايات المتحدة الأميركية، عمليات طائشة لأناس طائشين، أو أنها نتيجة وضع معين، يكون رد فعل على عمل إجرامي لرجل أسود "خطير"، يستعمل العنف في إجرامه، ولا يمتثل لأوامر الشرطة.
ويتفق الكثير من المحللين على أن العنصرية مُؤسسة فكرية وفلسفية وقانونية في الغرب وفي نسيج الدولة الأميركية منذ تأسيسها. وكان سكان أميركا الأصليون، الهنود الحمر، أول من ذاق التطهير العرقي في أميركا الشمالية، بحيث عمل المستعمر الإنجليزي على وجه الخصوص على نشر أوبئة وفيروسات (الحصبة والجدري والتيفوس على وجه التحديد) عن قصد، لإبادة ما يمكن إبادته من السكان الأصليين في أميركا.
وثمة نظرية للفيلسوف الألماني الشهير إيمانويل كانط تقول: "يمتلك الهنود الصُفر موهبة أقل. ويوجد الزنوج في مرتبة أقل".  ولا يخرج جورج هيجل عن تعاليم أستاذه كانط في هذا المضمار، بل أسس روحاً عنصرية للتاريخ، وجدلية بين "البيض والسود: كنقيضين"،  وتمييز الجنس الأبيض على باقي الأجناس بقوله: "إنّ الرجل الأفريقي يمثل الرجل الطبيعي بكلّ وحشيّته ونزقه. وإذا أردنا فهمه، يجب تناسي كلّ طرائق رؤيتنا للأشياء نحن الأوروبيين. يجب ألا نفكر لا في إلهٍ روحيّ، ولا في قانونٍ أخلاقيٍّ، يجب تعليق كلّ احترامٍ وكلّ أخلاقٍ لما نسمّيه مشاعر. كلّ ذلك ينقص الإنسان (الأفريقي)، الذي ما زال في مرحلةٍ خامٍ، ولا يمكن أن نجد في طبعه ما يمكن أن يذكّرنا بالإنسان".
ولائحة الفلاسفة العنصريين طويلة، وثمة  نهضة حقيقية اليوم للتنوير عند العديد من مفكري أجنحة الوسط والمحافظين في الغرب، ممن عادوا إلى الحركات الفكرية للقرن السابع عشر والثامن عشر.والولايات المتحدة الأميركية حالة خاصة في هذا المضمار، لا سيما في الوقت الراهن، إذ "تنعم" برئيس يعتقد بأنه "نبي البيض ومُخلّصهم"، وهو اعتقاد مترسخ، ليس فقط في شخصيته كإنسان، بل في معظم مؤسسة الإدارة الأميركية الحالية.
في الخلاصة إن ما يحصل في الولايات المتحدة الأميركية اليوم من إضطرابات ليس إبن ساعته ،ولا هو نابع من حادثة معينة ،بل له جذور عميقة في التاريخ والفكر والفلسفة .لكن في الولايات المتحدة أيضا شرائح واسعة من البيض ترفض النهج العنصري ،وقد خرج معظمها الى الشوارع مع أخوانهم السود رافضا هذه الفلسفة ،فلسفة التمييز التي أكل عليها الدهر وشرب ،والتي أسست لسقوط إمبراطوريات كبرى.فهل تؤسس التحركات الشعبية الأميركية اليوم لسقوط الإمبراطورية الأميركية،خاصة وأن الامبراطوريات الكبرى لا تسقط الا من الداخل؟
كثيرة هي التوقعات والتحليلات ،لكن الجواب الشافي مشوب بكثير من الحذر!

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى