بقلم د.حيّان سليم حيدر
ما زلت، ومنذ سنين، في صدد إنهاء مقالة بعنوان “مزبلة التاريخ تطالب بالتوسّع” هذا على وقع توسّع الزبائلية في لبنان، على أنواعها. وكنت صمّمت لها مقالتين: واحدة باللغة اللبنانية وأخرى بالإنكليزية العالمية لتصف كلّ منها حال الموصوف بلغته الأم. لكنّها ما زالت المقالتان تتوسّعان مواد شتّى وتتراكم كمياتٍ وتتفاقم نوعيّات.
وكان صديقي الكاتب السياسي سايد فرنجية قد طالعنا مؤخّرًا في صبيحة “إنتفاضية” ب”سريعة” من كتاباته مفادها أنّ سياسيّي لبنان قد تقدموا بطلب إنتساب إلى المزبلة وقد تمّ رفض طلبهم. فأفصحت له عن سرّ مقالتيّ الآتيتين، ولو بعد حين… عندما يكتمل التوسّع بمضمونها وتنكشف المساحات الممكن تخصيصها لها.
وفيما أنا أقرأ في كتاب (هـ) “الضمير المتصل” الصادر مؤخّرًا من تأليف الدكتور هاني سليمان (1)، قريبي النسب والفكر والعلاقة الطيبة، سرحت فيه في تفاصيل طرائف حياة الطفل القَرَوي بين بيت الأهل والمدرسة مرورًا بالتلّ والسهل، وابتسمت لظرائف ألعاب الشبّان فإلى الأوصاف المبسّطة لعملية صناعة وتخزين المونة مع الإلتفات إلى العادات العائلية القروية المرافقة. وقهْقهْتُ غلى قصّة البقرة التي “بتفتح بيت” و”قًمْع” الباذنجان الذي يصبح لحمة اليخنة و… فإلى “بدّي منك مهرة تاكل بإيدها”.
واستوقفني، أنا الطفل المَديني، ما فاتني من شيطنات صبية الضيعة، ولكن، ما استوقفني أكثر وعاد بي إلى تلمّس سبب من أسباب مآسينا المُعاشة في لبنان ما جاء في الثلث الأول للكتاب، روايات الزِبل والمزبلة في القرية وما يحيط بها من أمور وأحداث. وأنا أقرأ من ذاكرة الطفل هاني لم أتمالك رغبتي هذه في كتابة ملحق يسبق مقالتي الأساس وذلك قبل تبلورها واكتمال عناصر صدورها.
واستنتاجًا من تحليل علمي وإجتماعي بسيط أسأل: هل تعلمون ماذا يعني هذا كلّه؟ هذا يعني أنّنا، في لبنان، كان لدينا منذ سبعين عامًا ونيف نظام إقتصاديّ إجتماعيّ إنتاجيّ وتربويّ أخلاقيّ عائليّ كامل، ولو بخطوطه الجغرافية المحدودة وبأرقامه الديمغرافية المعدودة. وأعني بكلمة كامل الواردة هنا ما قد يقارب الكمال.
وأعود إلى مادة الزِبل والمزبلة من عناصر الحياة القروية للقرن الماضي لِأُلاحظ أنّها تعتمد على الزراعة بما هي مواد علف وحيوان يؤمّن الغذاء للبشر (وبعض الكساء) وينتج الزِبل ثمّ أنّه في “دورة الزِبل” الإنتاجية هناك التصنيع، أي الصناعة، وهي ثاني قطاع إنتاجي تعتمده الدول والمجتمعات وما زالت منذ الألفية الأولى من زمن البشرية. ثمّ أنّ الزِبل كان مادة تُسْتخدم لتدفئة المنازل والمحال، وبهذا فهي طاقة منتجة محليًّا وفي كلّ بيت بما يرفد الإستقلال الإقتصادي. وهي مادة تُسْتخدم أيضًا للتدفئة في المدرسة (والأهم) فهي تساهم مباشرة في دورة التربية والتعليم وتحلّ جزءًا، ولو بسيطًا، من مشاكلها المتراكمة (حتى الإختناق في أيامنا هذه). على أنّها تساهم أيضًا في حلّ جزء من مشكلة الأقساط المدرسية بتوفير التدفئة وتوفير نقل مادة التدفئة هذه إلى المدرسة، كلّ يوم، وخلال الفصل المطلوب من السنة. في القرية كانت المزبلة الكبيرة تدلّ على صاحبها الغني، بالبقر والغنم والماعز، ولا علاقة لذلك بمليارات مزابل لبنان المُعاصرة. ويستطرد هاني: “كان الرجل يُعْرَف أو يُقاس بمزبلته”، تمامًا كما ديوك اليوم. ثمّ يأتيك شرح العملية “الزِبلية” بكاملها (التفاصيل في(*)). هذا كلّه ليس ببسيط الأمر.
وقد يكون الأهم، الوقع العائلي والإجتماعي لهذا العمل/المهمة كما يشرحها مرحًا إبن العم هاني، وهو إلتزام الطفل القَرَوي بعادات العائلة “الإنتاجية” المحلية واعتبار العمل القَرَوي الجماعي عملًا منتجًا طبيعيًّا ملزِمًا لا بل ” بَقائيًّا ” إلى آخر منظومة النظريات الإقتصادية العالمية التي طالما تنافس مقدّموها على نيل جائزة نوبل وغيرها من تقدير ولكن كثر ما تبرهن النظرية عن سَوْقِها لمفاهيم تخدم مصالح شركات الإستهلاك، فيعودون بعد حين ليناقضوا نظرياتهم الأولى. إذن كانت دورة زِبلية إقتصادية متكاملة فيها العمل في الزراعة والصناعة وتوفير الغذاء والمشاركة في تحسين شروط السكن والمشاركة في مصاريف التربية والتعليم، وبطبيعة الحراك الجسدي الدائم فيها تحصين للصحة وبالتالي توفير للفاتورة الصحية على مستوى الوطن. وليس أخيرًا أنّه فيها تعميم لمفاهيم النظام والإنضباط العامين كلّها في رفد طبيعي للدخل القومي العام. وليس فيها أيّ ذكر لأسعار الصرف ولمنصاتها المتطايرة.
وكي لا تذهب قراءتي سُدًى، يتصل ما أسلفته بموضوع جمع النفايات في لبنان، هذه المعضلة المستعصية التي، هي والميثاق، ليس من حلّ بشري لها. وأدعو القارىء إلى تذكّر مظاهرات الزبالة للعام 2015 التي فاقت أعدادها المشاركين فيها ال80 ألف متظاهر لم يعرف أحد منهم صناعة الزِبلة.
وبعد التأمّل أتابع: مع مرور الزمن وهدر مال الناس، موازنة عامة بعد موازنة، ونحن في صددها الآن، ليكبر فيها لبنان، والضرر يتراكم على الرغم من إنتفاضة تلو إنتفاضة، على الرغم من إنشاء الوزارات والمجالس والهيئات والدوائر والبلديات ومجموعات المجتمع المدني وعلى الرغم من صرف المليارات على صفقات كنس وجمع وفرز وترحيل وتخمير وتسميد وطمر و… النفايات وما مَن يحاسب، بعد كلّ هذا، أين المواطن من ذاك الطفل القروي المنتج، يا هاني؟ لم يتمكن المجتمع اللبناني، دولة وإداريين ومواطنين، من التعلّم والتعليم وفي النهاية على فرز النفايات، نعم، مجرّد فرز النفايات من مصدرها، في المنزل أولًا، ومنه إلى… والأمر لا يحتاج، ما زال، لا إلى موازنات ولا إلى وزارات ومجالس ومقاولين وهيئات مدنية وسماسرة… الأمر يبدأ بالتوجيه الصحيح على المواطنة المسؤولة، قلْ لهم يا هاني، مجرّد توعية وترشيد وتنبيه وتعريف بمعنى المسؤولية الفردية والعائلية والجماعية وحتى القبلية والبلدية ومنها إلى المواطنية… وبعض من تطبيق القانون … وأين أنت من القانون يا هاني؟ قلْ لهم أيها المحامي.
بيروت، في 25 كانون الثاني 2022م.
_______________________________________
(1) د. هاني سليمان – “(هـ) الضمير المتّصل” – الدار العربية للعلوم ناشرون ش.م.ل. – 2021
(*) من نصّ الكتاب: “لم يكن المازوت مادة متوافرة وشائعة الإستعمال في البيت أو المدرسة أو الدوائر الحكومية (ونعلّق: وما زال الأمر كذلك). الزِبل المجفّف ذو طاقة حرارية كبيرة، وبدون رائحة تُذْكَر أثناء إحتراقها. كان على الطالب أن يُحْضر معه إلى المدرسة كلّ صباح، حطبة أو زِبلة من روث البقر المجفّف للتدفئة في الشتاء، وكان يمنع من دخول الصف إذا لم يكن مزوّدًا بالحطبة أو الزِبلة.” “فالزِبل جزء من كلّ بيت تقريبًا، من “مونة الشتاء”.
“كانت تتولى النساء مهام تطبيعه أي تجميعه في مكعّبات ونشره على سطح البيت” (ولا علاقة لذلك بالتطبيع المُعيب).
زر الذهاب إلى الأعلى