ثقافةكتاب

مسيحيون ضد المسيحية: الأب منعم والحقيقة الممنوعة 1(حسن علوش)

 

كتب حسن علوش – الحوارنيوز

لم تنل من الأب طانيوس منعم البتروني محاولات الإكليروس الماروني ممثلا برأس الكنيسة المارونية، والضغوط الترهيبية التي مارستها الكنيسة المارونية من أجل كف يده وتعطيل لغة العقل وقول الحقيقة كما هي، بأبعادها التاريخية والروحية والوطنية.

قبل البدء في قراءة فكر الأب منعم ونشر بعض كتاباته وأفكاره الواردة في مؤلفه ” خطر اليهودية الصهيونية على النصرانية والإسلام”، أشير إلى ما كتبه المحامي بسام الحلبي عندما قرأ الإعتذار الذي وجهه الكاهن الكاثوليكي رعد، الى أبناء طائفته لرفعه الأذان مع رجال دين مسلمين في إفطار دُعي إليه في البقاع، من أنه تذكر القاضي يوسف جبران الرئيـس الأول لمحكمة التمييز ووزير العدل في عهد الرئيس سركيس وأستاذ قوانين التنفيذ في الجامعات، والذي أخبر طلابه في إحدى المحاضرات عن قضية فصلها عندما كان حاكماً منفرداً جزائياً في قضاء البترون، أوائل خمسينيات القرن الماضي، وخلاصتها أنّ طانيوس منعم، خوري الرعية المارونية في البترون، كان يبدأ القداس بمباركة المصليّن برسمه الصليب بيده مع ذكر القول الكريم “بسم الله الرحمن الرحيم”، الأمر الذي تسبّب بحرج لرجال الإكليروس وللمسؤولين الروحيين في الطائفة، بحيث قام المسؤولون عنه بتفتيش غرفته في الدير الذي يقيم فيه فعثروا على كتب تتعلق بالمسيحية والإسلام والماركسية، ما أدّى بهم إلى الإدعاء عليه بتهمة تحقير الشعائر الدينية والتجديف على إسم الله.

وبعد محاكمته أمام الرئيس جبران أصدر قراره معلناً براءته ومعللاً حكمه بأنّ الصلاة بالمزج بين دينين مؤمنين بالله الواحد، لا تعدّ تجديفاً بإسم الله، بل هي من قبيل التأكيد أنّ الأديان كافة تؤمن بإله واحد يمكن التقرب منه من خلال كافة الأديان. أمّا بالنسبة الى الكتب الماركسية وإتهامه بأنه شيوعي الهوى ما لا يجب أن يكونه الكاهن، فقد قرّر الرئيس جبران أنّ حق المعرفة والثقافة والعلم والإطلاع على الأفكار الفلسفية، هي من صميم شرعة حقوق الإنسان وتتضمّنها كافة الدساتير في الدول المتحضرة، وعلى هذا الاساس أعلن براءته.

ويقول الحلبي “إنّ الحيثيات التي أوردتها هي من الذاكرة، والأمر الأكيد أنّ هذا الحكم بحيثياته كان قطعة قانونية وفلسفية ودراسة في الإنفتاح الفكري والعقائدي والديني، وقد إستعدت في ذاكرتي هذه المحاكمة، عندما قرأت إعتذار الكاهن رعد”.

وتوجه الحلبي للكاهن رعد، لو أنّه بدلاً من الإعتذار وإعتبار رفعه الصلاة هو من قبيل الجرم الموجب للإعتذار، وتشبّهه بالكاهن منعم وبالرئيس جـبران فأوضح لمنتقديه، أنّ الله واحد وما الخلاف إلاّ بطريقة التقرّب منه، ما يجعل رفع الأذان من قبيل الإعتراف بالآخر وليس تخلياً عن الإلتزام بالكنيسة، خصوصاً أنّ الكتاب الذي رفع الأذان تكبيراً لما ذكر فيه، ومن ذكر فيه، يقدس المسيح، ومريم ذكرت فيه أكثر مما ذكر فيه الرسول الكريم .

وتساءل: هل أصبحت الداعشية عابرة للأديان؟

سؤال المحامي الحلبي في محله، وإن كانت العودة الى بعض صفحات التاريخ الحديث للبنان، فإن الجواب الموثق يؤكد بأن الدواعشية اللبنانية سابقة للظاهرة الإقليمية الإرهابية التي ظهرت مؤخرا، وتمظهرت بأبشع صورها الإجرامية في الحرب على سورية والعراق ونفذ منها لبنان نسبياً.

كتاب الأب منعم

مؤلف الأب منعم سننشره في حلقات متتالية، كمساحة للحوار الوطني لا الطائفي، وكباب من أبواب العلم لا كمضبطة إتهام لأحد، وكمحاولة للإشارة الى أهمية وعي اللحظة الراهنة ببعديها التاريخي والمستقبلي.

الحلقة الأولى من كتاب الأب منعم ستتناول “التمهيد” الذي يتضمن إضاءات لها راهنيتها، كما لو كان الأب منعم يتحدث عن واقعنا الحالي، تليها الحلقات التالية وفقاً لتبويب الأب منعم:

– جذور الصهيونية

– اله التوراة واله الانجيل

– التلمود / لغة التلمود وآداب اليهود

– اليهودية الصهيونية والمارونية السياسية

– بروتوكولات حكماء صهيون

– الكنيسة وابليس

– الهوامش

إن الفلسفة الأساسية للمؤلف الجريء تقوم على ابراز وحدة الأديان وخطر اليهودية الصهيونية على الأديان والشعوب وسلمها وسلامها، وعلى التقارب المصلحي لفئة من المسيحيين اللبنانيين مع الصهيونية، لا دخل فيه للمسيحيين بشكل عام ولا للمسيحية، لا بل فإن المسيحية في تناقض كلي مع ما تمليه هذه المصالح من تحولات وتشويه حقيقي للديانة المسيحية ولرسائل ووصايا المسيحية والسيد المسيح.

الحلقة الأولى:

تمهيد

نحن اليوم، في لبنان والعالم العربي، أمام تحديات خطيرة، وفي فم منعطف تاريخي خطير.

وما نعاني، على أرض الوطن، من صراع دموي، وتمزق روحي وأخلاقي مرده إلى جملة أسباب، من أعمقها جذورا: جهلنا المزمن لحقيقة اليهودية، وبالتالي الصهيونية، مضافاً الى جهل ذوي الحكم، أو تجاهلهم، منذ نشوء الكيان الصهيوني على تراب فلسطين العربية.

فلقد واجهنا الصراع، ولا نملك من فهم أسبابه ما يُعيننا على مواجهته، بامتلاك أدوات المواجهة، لأننا لا نعي هذه الأسباب وعياً موضوعياً، وتاريخياً، كما لا نعي هذه الأدوات.

جيلنا الذي يكابد الصراع أقسى مكابدة نشأ في منأى ثقافي عن فهم قضية فلسطين، من حيث هي جوهرُ ما يعتمل في الشرق الأوسط من صراع.. ومن حيث إن الصهيونية نواة هذا الصراع.

 نشأنا ننظر الى واقع القضية نظرَ عينٍ لامّة لا نظرَ عينٍ ناقدة.

حُرَّم علينا ذكر كلمة إسرائيل في كتاب، أو صحيفة. كأنما ورودها هرطقةٌ وطنية!

وبخاصة في أعقاب حرب 1948. هذه الحرب التي كانت ائتماراً بالعرب، وبإشتراك العرب.. أي بإشتراك من يسمون قادة: ملوكاً ورؤساء.

 

لقد غرسوا رؤوسنا في رمال غير متحركة. وغسلوا أدمغتنا من التفكير. ومنعوا الأقلام أن تجري بحرف باحث مستنير ومنير. أو بحرف يشير الى إسرائيل، وخطر الكيان الصهيوني العنصري الحاقد على العرب، مسيحيين ومسلمين.

حتى لكأن تجاهل وجود الشر نفيٌ لوجوده أو نشوئه، أو تفاقمه، أو سيطرته.

كان جيلنا، معلمون ومربون، ورجال دين وقادةً وأحزاب في أُمية ثقافية وسياسية ودينية لا يُحسد عليها، ولكن يرثى لها.

فما كانت قضيةُ فلسطين وقضية الصهيونية في إسرائيل، تعني لديه شيئاً لا في تاريخها القديم، ولا في تاريخها الحديث. ولا في ما لها من مخاطر تتفاعلُ على مسرح الشرق الأوسط. ونحن فيما نحن، معنيون لحّاً بهذا التفاعل، وفي أسبابه ونتائجه.

وتوثيقاً لما أقول أسوق هذا الدليل: خذ اليك برامج التعليم الرسمي في الأربعينيات حتى الستينات، وما يترتب عليها من كتب، فإنك لا تجد درساً واحداً في كتاب مدرسي يتناول قضية فلسطين، والفلسطينيون مطرودون من أرضهم، لاجئون في أرضنا.

ومن أمس قريب كنت إذا ذاكرت أي أستاذ ثانوي، أو طارحت جامعياً، خطر الصهيونية على لبنان، وعلاقتها بالقضية الفلسطينية، وقعت على ما هو عجبٌ عجاب، فكراً وموقفاً، هذا إذا لم يكتف بهزّ الكتفين وقلب الشفتين، كأنما الأمر لا يعنيه، ولا يثير اهتمامه من قرب أو بعد.

وهذه اللامبالاة انما هي نتاج فراغ ثقافي، سياسي في هذا الباب، غير مقصور على المثقفين وأكثرية الشعب، بل يتناول القادة والزعماء. فلقد كانت المنافع الآنية لهؤلاء حجاباً كثيفاً مانعاً من استكشاف الغد واستشفاف المستقبل.

ولعل البحث البكر الذي تناول قضية فلسطين، ولو على نحو مختل وأيدولوجية مريضة، كتابُ “التنشئة الوطنية الإنسانية” (1)  ولكنه ظلّ كتاباً مطبوعاً بأناقة، فلم يعتمد، ولم يدرس. واستبدل به كتاب آخر في “التربية المدنية” كان له حظ سلفه، وألغيت مادة التربية من البرنامج الرسمي، وظل النشء، في المراحل الثانوية، بلا تربية مدنية وإنسانية، ترك انتفاؤها من “ثقافة” الانسان في لبنن من ممارسات لا إنسانية ورواسم وحشية، في الحرب اللبنانية القذرة، على مساحة هذا الوطن. وظل الوطن والمواطن بلا هوية، لأن ذوي الأمر فينا وذوي السلطان، مختلفون في شأن الهوية.. وجوهر خلافهم طائفيٌ، سياسي إيديولوجي. فما كان التوجيه التربوي هادفاً إلى بناء وطن ومواطنين ينصهرون في ولاء لهذا الوطن كلاً موحداً، في دولة قادرة عادلة، وفي إطار محيطه الطبيعي.

إنما أرادوه وطن الطوائف أو وطن “العائلات الروحية”، – كما يحلو لهم التسمية – العائلات المتمايزة في اقتناص المنافع والمتمايزة في الحكم والتسلط والمتمايزة في ما يسمى “حضارة”! وفي ما يسمى ديناً! والدين من حيث هو طريق ٌ الى الله الواحد الأحد، ومن حيث هو منهج سلوك للإنسان المؤمن بالله، هو كالإله نفسه، واحد أحد، لا تمايز فيه، ولا مفاضلة. 

ما قلته حتى الآن تمهيدٌ لما أقصد قوله، هو أن الفكر التاريخي الذي حكم عقول النصارى قرابة ألفي سنة في حاجة الى نقد علمي يتناول العلاقة، دينا وتاريخا بين اليهودية الصهيونية وبين النصرانية، لمعرفة ما بينهما من جذور مشتركة تسِم النصرانية بطابع التهوّد أو التصهّيُن!

التاريخ جدلية الزمن والزمن في ذات نفسه ليس تاريخاً، إنه بعدٌ زمني لمجتمع، لحضارة، لثقافة. والمجتمع بعد زمني لتاريخ هو تاريخ الانسان، تندمج فيه المدّة والمسافة بنسبية مطلقة. فليس الماضي والحاضر والمستقبل تاريخاً أو مقياساً لتاريخ. إنما هو مقياس لمواقف الانسان من التاريخ في بعده الزمكاني (2): أي حركة ما يحدث في حيز الزمكان. إن الموقف الآني من الحركة، من الحدث، من الظاهرة هو الحاضر، هو الهُنيهةُ ما بين قبل وبعد. هُنيهة ينعطف فيها التاريخ في كل أبعاده. فلا مندوحة أن يكون وعينا لهذه الهُنيهية من هَماهِمِنا الثابتة.

الظاهرة هي إسرائيل، فكيف نعيها في حركتها التاريخية ليكون وعينا لها موقفاً تاريخيا منها. 

هي ظاهرة تتواشج فيها تناقضات تناحرية متفجرة تتفاعل مخاطرُها على الساحة الإقليمية والدولية. يتهدَّد بها سلام العالم دولاً ومجتمعات.

كان لي سبق قول بوجوب إعادة النظر في الفكر التاريخي، والفكر الديني من زاوية النقد العلمي والشك المنهجي المعقلِن للدين وللتاريخ. فنكشف الجذور الدينية في حركة هذه ظاهره، واقعاً وتاريخاً، علما بأن اليهودية الصهيونية ليست بذات جذور دينية بحت، ودراستها بمنظار ديني بحت يجافي منطق العلم وقانون الحركة.

إن الدين في تاريخ أي شعب – كان وما يزال – في علاقة جدلية مع السياسة، تارة بتلبًس بها، وطورا تتلبَس به. وإن تبرّأ رؤساءه وتجارُه.

فما من شعب كان له وجود خارج التاريخ أو ان وجوده بالرغم من التاريخ.

إن كل شعب  يوجد بحكم التاريخ، أي حكم موقعه من التاريخ في بعده الديني، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، في حيّز من المكان، ومسافة من الزمان.

فلنكتشف هذه الظاهرة تاريخياً، بجذورها الدينية، بعين لامّة وفكر ناقد.

1– وهو الذي وضعته الشعبة الثقافية في الجيش اللبنتني عهد اللواء فؤاد شهاب عام 1963.

2-  منحوتة لغوية: من الزمان والمكان: الزمكانية.

3- الحلقة القادمة: جذور الصهيونية

 يتبع حلقة ثانية

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى