سياسةمحليات لبنانية

تأمُّلات مُستَقِلَّة في الإستقلال*

 

كتب ناجي بيضون:
يُولد ابن العالم الثالث مرعوباً من المستقبل ويموت مرعوباً من الماضي.
يقضي ابن العالم الثالث حياته "خائناً".
فهو أمَّا "خائن" لحكومته إذا كان معارضاً، وإمَّا خائن لوطنه إذا كان موالياً.
يتأمَّل ابن العالم الثالث حاضره فيجد أن استقلال وطنه الذي مات من أجله الكثيرون قد وُلد ميتاً.

يقرأ ابن العالم الثالث:

وطنٌ دعائمهُ الجماجِمُ والدمُ
                          تتهدَّمُ الدُّنيا ولا يتهدَّمُ

يُمسِك بجمجمته ويتنهَّد متسائلاً:

ترى.. لماذا لا يكون الدعم بالبناء والتنمية والرخاء والسلام؟!
لماذا يجب أن تكون الجماجم والدماء وحدها دعامة للوطن؟!

يترك جمجمته وشأنها مرعوباً..فيتذكَّر معدته الخاوية. إلَّا أنَّ "الإطمئنان" يعود إليه عندما يُرَدِّد مع المتنبي: 

ومن لمْ يَمُتْ بالسَّيفِ ماتَ بغيرهِ
                     تعدَّدَتِ الأسبابُ والموتُ واحدُ

لكنَّ خيالَهُ يسرح بعيداً.. يقول في نفسه:

قبل الإستقلال كان أبناء المستعمرين "يزورون" بلادنا فيجدون، في أرضها الخصبة وخيراتها الوفيرة، ملاذاً لهم. أمَّا بعد الإستقلال فقد أصبحت البلاد فقيرة والأرض جرداء..

يُفكِّر "برد الزيارة".
يحمل جمجمته ومعدته ويرحل، بعيداً، هارباً من حاضره المحاصر برعب الماضي ورعب المستقبل، ليصبح بلا ماضٍ ولا مستقبل.

هناك يُتابع التأمُّل إلَّا أنَّه يبدأ بالقراءة. يقرأ لأحد المُفَكِّرين الغربيِّين:
"إنَّ الإستقلال كان وبالاً على بلدان العالم الثالث. إنَّ على العالم المُتَقَدِّم أن يُفَكِّر بصيغة أخرى لإدارة شؤون تلك البلدان: انتداب، وصاية، استعمار…".
ينقز" عندما يقرأ الكلمة الأخيرة…

                                      **

سأنتقل معك في هذه اللحظة، عزيزي القارىء، لزيارة صاحبنا هذا لنقطع عليه تأمُّلاته السوداء ونروي له هاتين الحكايتين علَّنا نكسب ثقة فنُحاول بعدها إقناعه بالعودة إلى بلاده "الحُرَّة السيِّدة المُستقلَّة":

تقول الحكاية الأولى:
كان "العم أزرق" وهو رجل أفريقي لا علاقة له "بالعم سام"، يؤيِّد بقاء الإستعمار في بلده. وقد ألَّف من أجل ذلك حزباً وترشَّح للإنتخابات على أساس المُطالبة ببقاء الإستعمار في بلده. ولم ينل سوى صوت واحد وهو صوته.

مات العم أزرق. ولكن الناس في بلده يترحَّمون عليه الآن ويتمنّون لو عاد ليترشَّح من جديد. لأنَّه كان بعيد النظر، فبعد رحيل المُستعمِرين الذين كانوا يأخذون نصف خيرات البلد، ويتركون الباقي "للإستثمار" حلَّ محلَّهم أناس من "أهل" البلد أكلوا الأخضر واليابس بحيث لم يبق في البلد شيء واحد.

تقول الحكاية الثانيَّة:
في أواخر عهد الإنتداب الفرنسي في لبنان ابتدأت الإضطرابات والتحرُّكات المطالبة برحيل الإستعمار الفرنسي وأخذ الفرنسيون يعتقلون رجالات الإستقلال في لبنان.

ثمَّة سياسي لبناني ، كان مشهوداً له "بالتعاطف" مع الإنتداب ومن أشَّد عملائه حماسة، وجد أنَّ الرياح تغيَّر اتجاهها وأنَّ الفرنسيين خارجون لا محالة، فقام على رأس تظاهرة يُهاجم الفرنسيين بعنف ويطالب بخروجهم من البلاد.

كان على رأس قوَّات الأمن الفرنسيَّة في ذلك الوقت كولونيل ذكي اسمه بتشكوف.

وعندما ورده تقرير عن تصرُّفات صاحبنا السياسي قال لمرؤوسيه ساخراً:
لا تعتقلوه.. دعوه يفعل ما يشاء.. فأنا لا أريد أن أجعل من هذا المُنافق رجلاً وطنيَّاً.

سيتَنهَّد صاحبنا عند سماع الحكايتين وسيبتسم لنا. إلَّا أنَّه سيتفقَّد جواز سفره ويتأَّمله مليَّاً..

سَيَترُكنا مذهولين بعد أن يُفهِمُنا أنه مُضطَّر للذهاب لإرسال برقيَّة إشادة برئيس بلاده الدائم كي يتمَّكن من تجديد جواز سفره لتجديد إقامته بعيداً عن وطنه.

وبعد، عزيزي القارىء، ورغم كل ما  تَقَدَّم اسمح لي أن أُحيِّي من هذه الزاوية وطني لبنان في عيد استقلاله الخمسين. اسمح لي أن أبتسم وأنا أذكره لأن الوطن، أي وطن، مكان جميل ومعنى رائع، من الغباء أن تذكره دون أن تبتسم أو تفرح.

يستعيد ناجي بيضون هذه المقالة التي كتبها في دبي سنة ١٩٩٣…منذ 27 سنة لم يتغير الكثير*.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى