رأي

الصح والخطأ في استخدام مفهوم “بناءً على مقتضيات المصلحة العامة”

 

د. جواد الهنداوي – الحوارنيوز – خاص

 

يراودنا الشك والحذر حين يكون مُستهّلْ القرار أو الأمر الاداري او السياسي الصادر من دوائر الدولة هو : “بناءً على مقتضيات المصلحة العامة”.

 المفهوم سلاح ذو حدّين، هو (واقصد المفهوم) كلام حقْ، وأحيانا يُراد به أمرٌ باطل!

انحسرَ استخدام المفهوم في الدول الديمقراطية الغربيّة، ولم يعُدْ استخدامه مقبولاً،  إلاّ في قرارات نادرة، تمسُّ سيادة وامن الدولة. على سبيل المثال، يتكرر استخدام المفهوم في قرارات الادارة الفرنسية، التي بموجبها ترفض الوزارة الفرنسية المعنيّة منح طلب الجنسيّة لأجنبي، معلّلة قرارها “بمفهوم مقتضيات المصلحة العامة “، دون ذكر اسباب الرفض. ولكن حين يؤول الامر الى القضاء، يطالب القضاء الحكومة الفرنسيّة بتبيان تفسير ل”مفهوم مقتضيات المصلحة العامة”، اي يطلب القاضي من المدعي العام الفرنسي الإفصاح عن السبب الذي حرمَ الاجنبي نيله الجنسيّة!

ويستخدم المفهوم ايضاً عند استخدام الدولة لوسائل العنف المشروعة في فرض الأمن وسلطة القانون عند حدوث عنف وعصيان وتمّرد واعتداء على مؤسسات الدولة وتعطيل لعملها، ويحدثنّا الماضي القريب عما قاله  وزير الداخلية الفرنسي الاسبق ( شارل بسكوا ) في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وهو يستخدم العنف المشروع في اخماد تظاهرات تميّزت بالعنف والاعتداء على مؤسسات الدولة، حيث صرّحَ ” بأن حدود الديمقراطية وحقوق الانسان وحرية التعبير والرأي تتعطّل حين تكون المصلحة العامة او النظام العام   l’ordre public )  )في خطر.

القصدْ مما تقدّم هو أنّ استخدام مفهوم  “بناءً على المقتضيات العامة ” لتبرير القرارات الادارية أصبحَ استخداماً غير محمود، لاسيما مع توجهّات الدول والمجتمعات نحو تطبيق معايير الشفافيّة والرقابة و محاربة الفساد والمحسوبية والمنسوبيّة .

وبالعكس تلجأ الدول الديمقراطية، الى تبرير اجراءات القوة المشروعة، الى مفهوم النظام العام او مقتضيات المصلحة العامة حين تشعر بأن نظامها السياسي او سيادة الدولة وهيبتها ومكانتها في خطر، أو حين تواجه الدولة حالة تمرّد أو عصيان أو فوضى أو تظاهرات تحرّض الشعب والجيش الى التمرد و الانقلاب.

وقد تكون ظاهرة التمرّد والتظاهرات، التي عاشتها فرنسا في شهر أيار عام ٢٠١٨، والتي سميّت بأصحاب السّتر الصفراء، خير مثال على ما نكتب؛ حيث كان لهذه الحركة الاحتجاجية الشعبية أثراً كبيراً على الاقتصاد وصدى دولياً ، وارهقت الحكومة الفرنسيّة، ما اضطرها الى استخدام وسائل العنف المشروعة، والتي تمثّلت بملاحقة مثيري الشغب ومحدثي الاضرار قانونياً و أمنياً، ومارست اعتقالات كبيرة و تفريق المتظاهرين بالقوة.

وقد خلّفت اجراءات العنف المشروعة من قبل الحكومة الفرنسية عشرات القتلى ومئات الجرحى والمعتقلين، واقتضى الامر تعاونا أوروبيا ودوليا بين الحكومة الفرنسية وبلجيكا و المانيا من اجل وأد الحركة و فرض الامن و الاستقرار في فرنسا، وقد كان تبرير الحكومة لاجراءاتها هو  “مقتضيات المصلحة العامة واحترام النظام العام والحفاظ على مؤسسات الدولة والاقتصاد “.

المبدأ الذي تتكأ عليه الدول الديمقراطية في ممارستها لوسائل العنف المشروعه ، لفرض سلطة القانون وحفظ النظام والدفاع عن الدستور والنظام السياسي ، هو انّ سلطة القانون والنظام والدستور ، هي جميعها مرتكزات تمثّل ارادة الشعب وتعبّرعنها ، ترددْ وامتناع السلطات المعنيّة  والسلطات الدستورية عن ممارسة دورها  ، وصلاحيتها في فرض سلطة القانون والنظام و الدستور  والحفاظ على سيادة الدولة داخلياً  وخارجياً يضعُ تلك السلطات في موضع المساءلة والتقصير بعدم حماية واحترام ارادة الشعب، بل يجعل تلك السلطات تواجه اتهام التواطؤ مع حركة التمرّد والعصيان و الخروج عن القانون .

في فرنسا، بلد الديمقراطية المباشرة والنظام السياسي شبه الرئاسي، تختفي كلياً عبارة “بناء على مقتضيات المصلحة العامة” من متن القرارات الادارية  والسياسية، ولكن يحضر ويطبّق بقوة هذا المفهوم عندما يكون أمن ونظام و سيادة الدولة في خطر .

في العراق، البلد الذي ما يزال في مسار ديمقراطي متعثّر ، ونظام سياسي هجين (لا هو برلماني ولا هو رئاسي ولا هو شبه رئاسي، وكتبنا و كررنا ومنذ اصدار الدستور لماذا هو هكذا) في العراق يحضر مفهوم ( بناء على مقتضيات المصلحة العامة ) في أوامر وقرارات التعيين، ويختفي حيث  الحاجة له وبإلحاح، وذلك عندما تقتضي فعلاً المصلحة العليا للدولة التدخل من اجل فرض القانون والحفاظ على النظام.

*سفير عراقي سابق ورئيس المركز العربي الأوروبي للسياسات وتعزيز القدرات- بروكسل

  

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى