أدب وشعرثقافة

حكايتي مع صفوان حيدر الذي رحل وبقي قفطانه يدور راقصا مُحلّقا في المدينة(هدى سويد)

 

هدى سويد ـ إيطاليا – الحوار نيوز

أعادني خبر رحيل صفوان ،إلى مرحلة تعود إلى فبراير ومارس لعام 1997 .عشاء متواضع جمعني مع أصدقاء حميميين للشاعر صفوان حيدر، أخبروني خلاله أن اختفاءه يعود لسبب وضعه من قبل أحد أفراد عائلته في سجن روميّة ،للخلاص منه بعدما لم تنجح كل الحلول ،مستفيدين من راتبه كأستاذ تعليم ثانوي وخريج كلية التربية!

راعني وآلمني الخبر أكثر مما كانت تؤلمني الحرب حينذاك . كنت آنذاك أعمل في وزارة التربية إلى جانب امتهاني الصحافة، وبواسطة زملاء إنسانيين ومُخلصين لصفوان تأكدت من صحة الخبر . وصحيح أنّه من الطبيعي أن يكون لصفوان قيّما من أهله ومُستفيدا من راتبه ، بهدف الاهتمام به ورعايته لما كان يمر به من أزمات ، لكن ما لم يكن مقبولا رميه منسيّا في السجن إلى جانب المجرمين والمختلين وهو الذي لم يؤذ كائنا .

 تلك الأزمات التي عُرّف من خلالها ب”الشاعر المجنون” ، هي ذاتها بأبحاثه وقراءاته واهتماماته الثقافية ، جعلت منه المُثقف بفرادة حضوره وحواره ،  وكانت دافعا لإنتاجاته شعرا ، أدبا وترجمة لكبار أمثال ريلكه ، بريخت، واتقانه للغات منها الإلمانية، إذ عاش في ألمانيا حيث استكمل دراساته .. ناهيك عن آرائه في الفن التشكيلي ، الحرب والسياسة ، قادرا على الإنتقال بسهولة من الكتابة الصادقة، حسب نظرته وفلسفته عن الحب والعشق والفن إلى السياسة والغرب ، فلسطين ، الصحافة المتحررة والكتابة النضالية التنويرية إن جاز التعبير.

عزيزي صفوان سأحدّثك من جديد عمّا حصل ، سأحدث قفطانك الذي يحلق دورانا حول روحك  كالرقص المولوي ، كالكواكب التي تدور حول الشمس ، كالشجرة بحثا عن الضوء .

 توجهت إلى سجن روميّة مع صديقك الحميم ، كفردين من أقربائك ،إذ كان اللقاء  ممنوعا على سواهم ، أنا التي عرفتك من خلال جريدة “السفير” حينها ، ومن خلال التقائك أحيانا في مقهى “الويمبي” الذي كنت تسميه “معتقل الويمبي” ، وكان ملتقى الصحافيين والمثقفين من شعراء وأدباء وفنانين ،حيث كنت تلتقي أصدقاءك المقربين، كما كنت تلقاهم في مقاه أخرى ك”الكافيه دي باري” و غيره.. ناهيك أننا كنا نسكن في شارعين متقاربين ، أقصد رأس النبع من دون أن نلتقي يوما .   

توجهت إلى سجن رومية مع صديقك كما تعلم الذي جمعني به خبر العشاء. عند المدخل ارتاب رجل الأمن من زيارتنا ، مُعبّرا عن شكّه قائلا “لا يأته أحد ” ، لكن انسانيته تجاوزت ذكاءه وأسعدته زيارتنا للشاعر المصلوب خلف القضبان . ولا بد من الإشارة أننا عند خروجنا أوضحنا أننا أصدقاء لصفوان .

أذكر أننا حملنا لك ما اعتقدنا أنك ترغب بالحصول عليه ، وكان اللقاء حميما لا يوصف ، عرفتنا بعد سنين خمس ، بكى صفوان وبكينا ، تحدثنا عن السجن وفقره للملابس ، وهو الذي لم يهتم يوما لها . كان أنيقا بملابسه حين أراد، ودرويشا بقفطانه حين شاء. حدثني عن حاجته للكتب ، لكنه كان يستمر بالكتابة كما أخبرني ، وأطلعني على أكثر من قصيدة . وعند الوداع تمنى عليّ كصحافية إخراجه من السجن ،وما زلت أذكر صوته مناجيا :” هدى أخرجيني من السجن”.

كانت بيروت حينها مدينة تسعى للخروج من كابوس الحرب ، تشع كتابة كما كانت، تتحرر بكتاباتها وبكتابها ، وبعبارات الحرب المدوّنة فوق جدرانها.

كانت بيروت وكانت الجريدة ذات معنى ووقع . كنت حينها أكتب في جريدة “الحياة” التي نشرت فيها مقالا عن صفوان ، ولكني كنت بحاجة إلى جريدة محلّية تساهم في وجودها المحلي على تحرير السجين . وأذكر أن خبرا تم نشره في جريدة “السفير”، وكان قراري من ثم  اللجوء إلى ملحق “النهار” ليوم الأحد ، حيث تم نشر التحقيق ولقائي بصفوان في سجن رومية والحوار الذي دار بيننا . كان ذلك قبل أسبوع من عملية الإفراج عنه .

انتشر الخبر كنار في هشيم .شعرت أن بيروت استيقظت على خبر لم تتوقعه ، لا علاقة له بالحرب أو التسويات السياسية .إستيقظت بيروت وناسها لأول مرة على خبر شاعر سجين خلف القضبان، تُرك وحيدا لسنوات هو الشاعر صفوان ، طارحة ألف سؤال حول الثقافة والمثقفين ومسؤوليتهما ، حول كرامة وإذلال المُثقف، حول حقوق الإنسان ، حول مصير المثقف الذي يتعرض لأزمات نفسية ، وهل يمكن العمل على مساعدته ومحاولة شفائه ، أم أن الوسيلة الأنجع والأسهل هي عزله من دون الشعور بذنب ،وأن هذا العزل يندرج في فضيحة أخلاقية مدنية؟ بالرغم من محاولة تجيير التحقيق لمصالح ورياء الراغبين ، وهذا ما لا يهمني بقدر ما همني الإفراج نفسه الذي اتخذ بتاريخ 27 شباط /فبراير .

في هذا الصدد أذكر ان وزير الصحة حينذاك سليمان فرنجيه أهتم بالموضوع شخصيّا للإفراج عن الشاعر عبر مستشاره ألبير جوخدار، الذي أصر كما أذكر أن أكون في الموكب المتوجه إلى صفوان . وهكذا كان .انتقلنا ،مسؤول الملحق الثقافي وأنا والزميل المصور( الذي تخونني الذاكرة في استرجاع اسمه ) ، إلى سجن رومية عبر سيارة الصليب الأحمر ، وبالتالي نقل الشاعر  إلى مستشفى دير الصليب ، حيث كانت بانتظاره غرفة نظيفة ، سرير ، طاولة وكرسي قال حينها ” لم أجلس على كرسي منذ خمس سنوات”.

ثم رأيناك من جديد في شارع الحمراء بجلابيتك وقصيدتك ، سباحتك في عالم لم نستطع السباحة فيه ومعك .

 

عزيزي صفوان أذكر أن راتبك كان كافيّا بعيشك مُكرما ،لكنك لم تستفد منه ولو بعلاجك . ولعل فريقا يا عزيزي لم يكن يرغب بتحريرك وكثيرا ما سمعت من انتقد : ” علام حررته ؟ كان من الأفضل كبح جنونه !” وفريق حاول الاستفادة من الخبر وتجييره لمصالحه وريائه ، وبلا ريب فريق انكب ثقافيا وانسانيا الى جانبك .

بزيارتي لك عهدت إلي بمجموعة من كتاباتك الشعرية ، كانت بحوزتي وحاولت نشرها، ثم بسبب سفري النهائي لإيطاليا ، تعهدها زميل ودار نشر ،ولا أدري فيما بعد المصير الذي انتهت إليه.

كنت أتردد إلى بيروت أسأل عنك دون أن أعرف أين أنت ، وأذكر أن من قال لي منذ سنين أنك فارقت هذه الحياة  إلى أن رحلت حقا . كنت تستشهد قائلا في كتابك نوارس  الندم :” الحياة جنة للمغفلين وجحيم للمتألمين المتأملين الصابرين “.

إنه الكتاب نفسه الذي أهديتني فيه نصا ووقعت صفحته الأولى  بكلمات ، وإن بالغت فيها يا عزيزي :” أديبتنا الكبيرة ومنقذتنا من الموت ، الأخت الفاضلة هدى سويد ، هذا الكتاب حكايات شعرية تحكي صراعات الحضارات (صفحة 29 لكم) بلغة تتماوج بين الضحك الأسود والبكاء البنفسجي . كل المودة والتقدير إلى الأبد . صفوان “.

رحلت يا عزيزي ، والمدينة لم تعد على ما كانت عليه ، لكن قفطانك بقي محلقا راقصا في فضاء الحمراء  .

لصفوان أذكر : خطوط وألوان ، تساؤلات من مدينة لماذا ، أمطار الشمس، كلام زيتونة المرجان ،ونوارس الندم ..  

 

صفوان
صفوان يكتب في المستشفى
لحظة الخروج من السجن

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى