دولياتسياسة

مفارقات في المشهد اليساري الراهن: التجربة العربية- السورية نموذجا

عقد في مدينة غوتنبرغ السويدية ملتقى اليسار الثالث بدعوة من الحزب الشيوعي السويدي يومي ٢٦ و ٢٧ أيار الماضي، قدّم خلالها الباحث الزميل طلال الامام ورقة عن واقع اليسار والمعوقات الراهنة وسبل تجاوزها.
وتنشر " الحوارنيوز" ورقة الزميل الامام مرحبة بفتح باب النقاش حول الموضوع عينه.

وجاء في ورقة العمل الموزعة مسبقا  :" 
اسمحوا لي بداية ان أتقدم بالشكر الجزيل للحزب الشيوعي السويدي على استضافة اللقاء اليساري الثالث في مقره المركزي ، ولجميع المساهمين في هذا اللقاء  سواء بالحضور او ارسال مداخلات .
ان الموضوع الذي سيتم تداوله والحوار حوله حصرا هو التالي : من هو اليسار ؟ ماهو تعريف اليسار في خضم مايجري من احداث دوليه ، اقليمية ، ومحلية ، ماهي أدواره. ونشاطاته ، ومواقفه ؟ كيف يمكن لليسار استعادة دوره ؟”
لن أتطرق الى مجمل تلك النقاط لاعتقادي ان التطرق اليها يأخذ حيزا كبيرا وان المداخلات الاخرى ستجيب على معظمها  هذا  من جهة ومن جهة ثانية لن ادخل في تعريف اليسار ودوره التاريخي لان من السهل الرجوع اليه لمن يرغب وهو موجود على مختلف المواقع الالكترونية وفي العديد من المطبوعات .
سأتوقف عند  بعض المفارقات والأسئلة مثل لماذ ينكفئ اليسار ؟ وكيف يمكن له  استعادة دوره التاريخي؟ دون ان ادعي تقديم اجوبة ناجزة وإنما محاولة فهم الاسباب وكيفية الخروج من المأزق كي يستعيد اليسار القه . 
(بودّي الإشارة الى ان تعبير اليسار أينما ورد اقصد  به : الشيوعيون ، الماركسيون ، الديموقراطيون ، العلمانيون ،  نشطاء حركات السلم ،الحركات النسوية والمثقفين والمفكرين  سواء كانت أحزابا، هيئات ام أفراد ).
المفارقة الاولى
يعاني النظام الامبريالي  النيوليبرالي القائم على النهب واشعال الحروب من أزمة بنيوية وهو ما يتبدى في تفاقم أزمته الاقتصادية من حيث  ازدياد العاطلين عن العمل ، الخصخصة التي تقضي على مكتسبات  شعوب تلك البلدان والتي حصلت عليها عبر نضالات واسعة  ، تعاظم الفروقات الطبقية في المجتمع ، تزايد الجريمة بمختلف اشكالها … هذا كله يدفع ذلك النظام لمحاولة اطالة عمره عبر إذكاء حروب وصراعات دينية  وإثنية خارج حدوده .
المنطقي ان تكون تلك  الظواهر عاملا  مساعدا على زيادة دور اليسار المعروف عنه تاريخيا انه يضم قوى السلم والطامحين للعدالة في توزيع الثروات الوطنية ،وقوفه لجانب المستضعفين في المجتمع والعمل على تحقيق المساواة بين الجنسين ، قوى  الديموقراطية والعلمانية …
لكن ما نلاحظه هو العكس تماما على المستويات المحلية الإقليمية والعالمية  : اليسار مأزوم ، مشرذم ، يتراجع دوره بين أوساط حتى من يدافع عنهم وبشكل خاص الشباب .
لماذا ؟
هل السبب انهيار الاتحاد  السوفيتي والمنظومة الاشتراكية التي كانت سندا ماديا ومعنويا لليسار ؟
ام ان السبب  في تعاظم مختلف أشكال القمع ، التضييقات والملاحقات والحملات المنظمة ضده ؟
   علما ان هذا الأشكال كانت موجودة دوما ورغم ذلك كان لليسار دورا ملموسا في مجمل الحياة السياسية فترات طويلة  … هل ا لأسباب ذاتية ام موضوعية؟ اذا لماذا ؟ 
المفارقة الثانية
يتعاظم في العالم ومنطقتنا خصوصا تأثير التيارات الدينية السلفية /الرجعية وبرز وجهها الأكثر بشاعة في الوهابية ، داعش الاخوان المسلمون وأشباههم …اما أوربيًا /عالميا فهو يتبدى على شكل ظهور التيارات الفاشية والعنصرية والنازية الجديدة  التي وصلت بعض البرلمانات  وسدة الحكم "ديموقراطيا " وفق المفهوم البرجوازي.
المنطق يقول ان  من المفروض تجذر و تمدد  اليسار اكثر كرد فعل طبيعي على تنامي تلك التيارات الرجعية. لكن مانشاهده هو العكس …مرة اخرى لماذا ؟
المفارقة الثالثة
وهي برأيي الأكثر ايلاما ، وتتمثل في ان بعض  المناضلين اليساريين سابقا ( حتى بعض الاحزاب ) تخلوا  عن مرجعيتهم  الفكرية /الماركسية  و تحولوا للخندق الاخر .  بعضهم تحالف مع التيارات الدينية الاشد رجعية من اخوان مسلمون، نصرة، داعش وأشباههما …لدرجة صار يدافع عن السعودية ، يقيم علاقات  ويتعاون مع محتل أراضيه من اسرائيل، تركيا امريكا وغيرهم ..بل وصار يدافع عن الليبرالية الجديدة ويبشر بقبر الماركسية. علما ان بعضهم تعرض سابقا للسجن والملاحقة دون ان يتخلى عن يساريته!  تُرى لماذا؟
المفارقة الرابعة
ان الظروف الدولية ، الإقليمية او المحلية تفرض على قوى اليسار ان تلتقي على برنامج الحد الأدنى لمواجهة المشروع الديني الفاشي المدعوم من قوى الإمبريالية العالمية والرجعيات المحلية ومحاولاتها ،كما في سورية والعراق ، تأجيج التجييش الدين/الطائفي او الاثني اضافة الى العمل على تقسيم الاوطان وضرب الدولة الوطنية التي تشكلت بعد نيل الاستقلال السياسي .
فماذا نجد ؟
نجد ان اليمين بمختلف اشكاله يتعاون مع بعضه  بصيغ مختلفة بينما  عموما قوى  اليسار منقسمة  ، مشرذمة ،تتناحر فيما بينها ، تتبادل الاتهامات ،لايجمعها  حتى خطر تفتيت أوطانها او المشروع الديني الفاشي .مرة اخرى لماذا ؟
  المفارقة الخامسة
بعض اليسار لايجد صعوبة في التحالف ،بأشكال مختلفة ، مع قوى في الضفة الاخرى بل ويهرول نحوها ….بينما تصيبه العنعنة ويضع شروطا تعجيزية عندما  يتعلق الامر بالتعاون او اللقاء ولو بالحد الأدنى مع من المفروض ان يكون معهم في خندق واحد لمواجهة التحديات
الراهنة. لماذا؟
ان ماذكر اعلاه لايعني ابدا نكران  النضالات التي تخوضها مختلف قوى اليسار .هذه القوى متجذرة في مجتمعاتها لكنها في حالة كمون . الهدف من أسئلتنا هو وضع هذه القوى امام نفسها كي تستعيد دورها التاريخي المنوط بها كقوى للتغيير والتقدم نحو مجتمع علماني ، مدني وعادل  في توزيع الثروة .
ثمة أشكال  عدة  برأينا لإنجاز مهمة عودة الناس  لليسار او عودة اليسار للناس .
ثانيا – إقامة تحالفات ثنائية وجماعية بين قوى اليسار عبر إقامة نشاطات مشتركة
ثالثا – السعي  نحو إنجاز برنامج الحد الأدنى  بين مختلف فصائل اليسار وصولا الى إقامة تحالفات،
جبهات او لجان مشتركة لمواجهة  الديكتاتوريات و الفاشية الدينية والتحديات الماثلة امام مجتمعاتها من أمية، فقر ومرض. البحث عما يجمع اليسار وليس مايفرقه.
رابعا – تنشيط العمل الفكري التنويري بين أوساط  النساء و الشباب خصوصا لمواجهة الفكر 
الرجعي السلفي.
خامسا – استخدام جميع الوسائل المتاحة والممكنة لنشر أفكار العلمانية ومواجهة التجييش الديني، الطائفي او الاثني. 
سادسا – إنهاء ،وقف او  تأجيل اية خلافات هامشية بين  فصائل اليسار والتأكيد على مايوحده
سابعا -عدم نسيان ان العدو الرئيسي لشعوبنا  مازالت الصهيونية وسياستها التوسعية الاستعمارية.
ثامنا – عدم إسقاط هدف الوصول الى الاشتراكية من برامج اليسار.
تاسعا – تنشيط العلاقات بين مختلف فصائل اليسار على المستويات المحلية، الإقليمية والعالمية.
عاشرا – ابتكار أساليب جديدة في العمل السياسي والجماهيري تتناسب وظروف كل بلد دون   
التخلي عن الأساس الفكري. 

رب قائل ان هذه المهام صعبة التحقيق ضمن الظروف المعقدة التي تمر بها بلداننا والعالم، هذا صحيح والمطلوب ليس تحقيقها كلها دفعة واحدة وإنما الامر متروك لليسار في كل بلد كي يبدأ باي خطوة ممكنة مهما بدت صغيرة من اجل تحقيق تراكم يؤدي الى التغيير المنشود .
  أخيرا   على قوى اليسار أن تأخذ موقعها في العالم الجديد الذي يشق طريقه ..العالم القائم  على تعدد الأقطاب على أنقاض مرحلة القطب الواحد الذي سيطر عقودا من الزمن مخلفا ويلات ، حروب وكوارث  في منطقتنا والعالم مازلنا نعاني من اثارها.
إن ما يوحد اليسار اكثر بكثير مما يفرقه.  لنتخلص من ضيق الأفق التنظيمي، من سيطرة عقلية العشيرة من التشرذم، من الأنا القاتلة من الادعاء ان كل فصيل يساري يملك الحقيقة كاملة، لنتوقف عن تبادل التهم التي تصل أحيانا لحد تهمة الخيانة، التحريف وما الى ذلك.  هذا اذا كنّا  نطمح فعلا  كقوى يسارية للتغيير المنشود لما فيه مصلحة شعوبنا كما ندعي.
وإلا فان حكم التاريخ علينا جميعا سيكون قاسيا ولن يرحمنا. 
هل نفعل؟
نأمل ونعمل .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى