ثقافة

لا من عَالِم.. ولا من يعلمون؟(محمد عبد الله فضل الله)

بقلم محمد عبدالله فضل الله*

عالِم جمع عالِمون وعُلَماءُ : هو المُتّصفٌ بالعِلْم والمعرفة ، المُتخصِّص في عِلْمٍ معيَّن، وقد عُرف العالم بعدة تعريفات،وقيل: العالم هو من يخشى الله تعالى، ويعمل بعلمه.

تشتبك اللحظات القلقة عند الفرد والجماعة لتبرز مقدار تفاعلها مع همومها وتطلعاتها كآدميين يحولون العلم والمعرفة إلى زاد يتقوى به الناس على مواجهة كل تنافرات الحياة ويجابهون به كل جهل يريد بهم وقيعة وانحدارا.

توقف الباحثون عند هذا المصطلح – العالم – وما يمكن الاستفادة منه في جملة من الأحاديث. فمن مصاديق العالم الأخلاقية والتربوية ألا يكون قاصدًا بتعلمه بلوغ أهوائه الدنيوية وإشباع مطامعه الذاتية حيث يقع كثيرون في حب الدنيا وفتنتها فتعمي أبصارهم ولايعملوا بموجب علمهم فيضلوا العباد بذلك وهو ما لمسناه ونلمسه في دنيا الفتوى الجاهزة والمواعظ الطنانة.

حذّرنا السيّد المسيح(ع) من هذه الفئة لافتًا بجلاء إلى أن المرتكز القيمي للعلم يظهر عبر العمل والمواقف والجهد النافع الذي يرفع مستوى الناس والحياة، وليس العلم المتخذ كوسيلة من أجل تزكية النفوس، ولمجرد الترف وشكلا من أشكال استعمار الناس،وخذلانهم واستغلالهم هنا يصير العالم مثال الشرير الطريد من رحمة الله، بينما نرى كثيرين استسلموا لوعاظ السلاطين وعلماء السوء، وبدل أن يصححوا المسيرة ويرفضوا الخنوع والتقبل الأعمى لا يزالون مختلفين مجتمعين حول الترهات منسحقين أمام الشكليات والمظاهر مشدودين كغيرهم إلى الزينة والرسوم على حساب القيمة والمعنى.

 يروى عن السيد المسيح قوله :”إنّ شرّ النّاس لرجلٌ عالم، آثر دنياه على علمه، فأحبَّها وطلبها وجهد عليها، ولو استطاع أن يجعل الناس في حيرة لفعل، وماذا ينفع الأعمى نور الشّمس وهو لا يبصرها، كذلك لا ينفع العالم علمه إذا هو لم يعمل به، فتحفَّظوا من العلماء الكذبة الّذين يخالف قولهم فعلهم”.

نجد الكلام نفسه في وصية الإمام الكاظم لهشام بن الحكم: “إن ضوء الجسد في عينه، فإن كان البصر مضيئاً استضاء الجسد كله، وإن ضوء الروح العقل، فإن كان العبد عاقلاً كان عالماً بربّه، وإن كان عالماً بربّه أبصر دينه، وإن كان جاهلاً بربّه لم يقم له دين، وكما لا يقوم الجسد إلا بالنفس الحيّة فكذلك لا يقوم الدين إلا بالنية الصادقة، ولا تثبت النية الصادقة إلا بالعقل”.

العقل هنا هو العقل المسموع المقتحم لساحات الحياة وميادينها بالعمل بحيث يستفيد من كل التجارب والخبرات ويقاوم كل مظهر من مظاهر الفساد والإفساد على المستويات كافة.

هذا العقل المسموع الذي خذلناه من خلال نبرتنا المتعالية في الخطاب وتقصيرنا في مقاربة الأمور بطريقة مرنة وحكيمة وواقعية مما عرضنا إلى كثير من الاهتزازات والتي نأمل ألا تسقط الواقع برمته وترمي بنا في فشل ذريع وندين بذلك أنفسنا قبل إدانة رجعية هنا وإمبريالية هناك.

تستعر دغدغات العواطف والرغبات دافعة نحو جيل مصنوع مجلوب على المظاهر وتقديس الأهواء والتحلل من العقلانية التي اختفت من على ألسن من يقدمون أنفسهم على أنهم مكرّمون عقلاء في حفلة صاخبة ومجنونة بين قادة وأئمة وأصحاب قلم وزعماء وبين رعاياهم ،بينما الواقع سابح بدمائه في مستنقع من الملوثات والعفونة الذهنية والعقلية، لنقل أن من يتلاعب بالواقع في هذيان يُستصعب معه أن تجادله بالتي هي أحسن وأن تصل معه إلى نتيجة فلا منطق هنا البتة.

الأصح إطلاق صفة المتعلّم على الإنسان لا العالم لما لهذه الكلمة من استبطان لعنجهية وظفّها المختالون بسخافة، ولأن العالم قلما تجتمع فيه كل الصفات من الداخل وتعينه الظروف من الخراج .

يقول السيد محمد حسين فضل الله: “… قد يكون من الأنسب أن نطلق على الإنسان صفة المتعلِّم، لا صفة العالِم”.ومن هنا، أيضاً، إذا ما استشعرنا عظمة العلماء لعظمة علمهم، فعلينا ألا نستغرق في ذلك، بل أن نتّخذ منه نقطة انطلاق، نقطة انتباه توقظ في قلوبنا وعقولنا عظمة الله تعالى”.

في خضم زحمة الأسماء والألقاب والترسم برسم العلماء، لنا أن نتساءل عما وصل إليه واقعنا من اشتباه واستغراق بالمظاهر،فكثيرون ممن يجلسون على كرسي العلم هم من أهل الدنيا الذين يتوسلون كل طريقة كي يحصلوا على وفير النعمة والترف، يجسد فعل قاطع الطريق، يكنز الأموال ويخفيها ويقتني طائرته الخاصة وسياراته الفارهة ومواكب أبهية.

لا يمكن للعالم الحق إلا أن يبصر بعين الحق والحقيقة وبنور التقوى والإيمان أمور دينه ويختبرها ويعيشها خلقا وشعورا وسلوكا وموقفا وقيمة يحاول تركيزها في حياته وفي حياة الناس من حوله، فلا يعيش الدين لذة وترفًا ذهنيًا لنفسه،بل يعتبره رسالة وغاية في خدمة عيال الله فيسعى إلى رعايتهم وحفظ حقوقهم وتوعيتهم بكل إخلاص وحكمة، وهذا ما لم يتوفر حيث الأمانة بضاعة نادرة في مواسم ازدهار الخيانة.

في الفضاء العام المغيّب والصادق اشتياق إلى روح مخلصة متحلية بالوعي التام الذي يجمع بين نظافة الشعور ونبل الأهداف في حفظ الحقيقة ، وتبليغ المعرفة ابتغاء تكريس الأصالة وخدمة الحق وأهله، فأمام ضغوطات الإستكبار وأدواته لا بد من التمسك بعناصر القوة، ومراجعة نقاط الضعف التي تجعلنا في دائرة الإستضعاف من الشرق والغرب، وبوجه خاص المتعلمين الذين يقدمون أنفسهم كمسؤولين أن يتحلوا بالمرونة والحكمة في الموازنة بين المبادىء والشعارات وبين حركة الواقع وتقلباته فيتنبهوا إلى خطواتهم ومواقفهم وتكتيكاتهم.

فالعالم من يقصد بنيته الصادقة وعمله المخلص وجه الله، لا يداري ولا يتلون ولا يخادع ولا يعيش الزيف والمكر، يحمل كل نية حسنه وكل علم نافع وكل قلب طاهر وكل عقل منفتح على قضايا الحياة.

قد يؤخذ علينا قولنا “وجه الله” وإيراد الألفاظ حرفيًا كما في الأدبيات الدينية، ولكن إذا حركنا فهمنا قليلا في فضاء هذه المفردات نعثر على مداليل واسعة وخصبة تعيننا على تخطي كل أنانية وتشتت وضعف، فليس الله من تصلي له وتحج وتصوم كما في مخيلة الجماعة، إنه فوق كل محدودية وأمام كل قوة تجمع ولا تفرق توحّد النفس والجماعة في قلب واحد وعقل واحد وعمل واحد يرسم لها جمالا وإبداعًا يغطي على كل تناقضاتها عبر الزمن.

القضية ليست مزاجية. إنها مسؤولية العلم في حجم الزمن، من هنا نجد الواقع متعطشا إلى علماء مبدعين لديهم القدرة على تحريك الفضاء العام المعرفي المناسب لروح التشريع، كما الفكري العام بمعزل عن التعصب للذات أو الهوى الفردي والمزاج الجمعي الجامد!

ولنا أن نتساءل عن غياب نوعية المتصفين بالعلم حقيقة وحضور أشباههم بقوة وقطعهم تاليًا التنفس الطبيعي لحركة المعرفة، فلا غرو إذا قلنا بإن الفقه والعلم كما العقيدة البعيدون عن معترك الحياة لا قيمة لأجمعهم، بل هم يشكلون عبئًا ثقيلًا عليها.

إن العالم من يحيا الصفاء في فكره ومشاعره وسلوكه، يستحق المكانة المتميزة فينفع به العباد والبلاد، وكلما تعاظمت درجة العالم تعاظمت معها مسؤوليته أمام الله وأمام الناس والتاريخ.

ليس المترسم بالعالم كما اليوم من يُنتفع به، بل هو وبال على مجتمعه وشعبه يقف بوجه أي فرصة للإصلاح والتصحيح. فالفضاء العام الإعلامي والسياسي والثقافي القائم على مجموعة من العلاقات والخلفيات يساهم في مزيد من التقهقر وتكريس الصورة التافهه لفئة هي الأخرى تغذت وكبرت على ما هو موجود من منظومة متكاملة غيّبت المرتكزات الأخلاقية والقيمية لصالح تنظيم شبكات المصالح والمنافع، فلا بد من إنهاء كل ذلك بمواقف وخطوات قوية ومدروسة، وفضح كل ما يجري ،ولن يكون ذلك ممكنا ما لم يتصالح الناس مع أنفسهم أولا حتى ينتجوا طبقة من أناس يعملون للقيم والمبادىء التي تقوي الحياة وترفدها بكل ما يعززها وإلا سنبقى نكتب ونشهد على مرحلة من انحطاط قاتل في ما نتشدق بحضارة فارغة.

* باحث أكاديمي وحوزوي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى