سياسةمحليات لبنانية

أَيُّ بَديلٍ لجُمهوريّة الرَيع والفساد؟

 


منصور بطيش وزير الإقتِصاد والتِجارة السابق

يَكثُر الحَديث مؤَخَّراً عَن تَوزيع الخسائر الماليّة التي تراكمَت مُنذُ التِسعينات وتناسَلَت وَسطَ تغاضي مُعظَم الطبَقة السياسيّة؛ بَعضُهُم عَن تَواطؤٍ ومصلَحة، وآخَرون عن جَهلٍ بمَدى تأثير الأُمور الماليّة والنقديّة وتداعياتها على السياسة وسيادَة البَلَد وإدارتِه، مَعطوفاً على كُلّ ذلِك غيابُ الثَقافة الإقتِصاديّة والماليّة.

والحَقيقة، لَمْ تَكُن هذه حالُ البِلاد دَوماً ولا المَسؤولين فيه. ولا يَضيرُ التَذكير بِبَعض مَراحلِ تاريخِنا الحَديث قبلَ الغَوصِ في دَلالات الأرقام الراهِنة ومَراميها. فبَعدَ أربعةِ اشهُر، نحتَفِل بالذِكرى المِئَويّة الأُولى لإعلان دَولة لبنان الكبير التي عَرَف في كنَفِها اللبنانيّون سَنوات مِن الرَخاء والنُموّ والإزدِهار وأسَّسوا لِدَولة الـ1943 التي كانَ لها رؤيَة في الإقتِصاد كَما في السياسة. قَد نختلِفُ مَعها حَدَّ التناقُض، وقَد نَتَّفِق حَدَّ التَماهي، ورُبَّما نقارِبُها بمَوضوعيّة الزَمن والتَجرِبة، لَكِنَّ الأكيد أنَّ لبنان ما بَعدَ الاستِقلال كان يَعرِف، الى حَدٍّ كَبير، ماذا يُريد وإنْ توَهَّم أحياناً طمُوحاتٍ وأدواراً أكبَر مِن قُدرَتِه المَحدودة. إنطَلَقَت الجُمهوريّة الأُولى مَساحةَ حُرّيَة سياسيّة وإقتِصاديّة في هذا الشَرق وتَطَوَّر لبنان بالرُّغم مِن بَعض الإهتزازات، الى أنْ جاءتْ احداث ١٩٧٣ لتُنهي عَمَليّاً حَقَبَة وتُبقي جَمرَها تحتَ الرَماد وتَشتَعِل حَرباً في ١٣ نيسان ١٩٧٥ وتستَمِرّ، بعَناوين مُختَلِفة، حَتّى١٣ تشرين الأوّل ١٩٩٠.

آنذاك، كان حَجمُ الدَين العام اقلّ من مليارَي دولار وتحديداً ما يوازي ١،٨ مليار مُعظمُه بالليرة اللبنانيّة، دُفِعوا قَبل سَنَوات ثَمن أسلِحة للجَيش اللبناني، عِلماً أنَّ لبنان لَمْ يكُنْ مَديوناً ولا بفِلْس واحد في أيلول ١٩٧٦ أي بعدَ عام ونيِّف من إندلاع الحرب. لا بَلْ يَجوز ُرَفعُ القُبَّعة للرئيس الياس سركيس الذي جَعلَ من الذَهَب جُزءاً مِن قَرْشِ الجُمهوريّة الأبيَض يَحفَظُهُ للأجيال المُقبِلة، وهو يُساوي راهِناً أكثَر مِن ١٥ مليار دولار.

مع إنطلاقِ الجُمهوريّة الثانية على أساس إتِّفاق الطائِف الذي طُبِّق انتِقائيّاً واستِنسابيّاً تَماشياً مَع مَوازين القِوى، وليس مع المصلَحة الوطنيّة، بَدأت الدُيون تَتَراكَم على الدَولة بذَريعَةِ إعادة الإعمار التي لَمْ تُكَلِّف سِوى بِضعَة مِليارات لا تَتَعَدّى أصابِع اليَد الواحِدة. تَرافَق ذَلِك مع تَزايُد ضُعف قِطاعات الإنتاج التي أرهَقَتها أصلاً الحُروب المُتَعاقِبة طِوال خَمسة عَشرَ عاماً ولم يَهتَمّ بِها مَن تَوالوا على الحُكم مُنذُ التِسعينات. إستَفاقَ لبنان على عَجزٍ تِجاري وصلَ الى ١٦،٦٥ مليار دولار عام ٢٠١٨. وبَدأ العَقد يَنفَرِط ليَكتَشِف اللبنانيّون:

قُصوراً في قِطاع الخَدَمات العامة، كَهرَباء، إتّصالات، مواصَلات…

مُعدَّلات فوائِد عالية لإجتِذاب ودائِع مِن الخارج هُرِّبَت سَريعاً من البِلاد مع الفوائد بالدولار عِند أوَّل هزّة.

هندَسات ماليّة لتَغطية خِسارات مَصارِف نَتيجة إستِثماراتها الفاشِلة في دُوَلٍ خارجيّة. قُروضاً مَدعومَة لَمْ تُعطَ بمُعظَمها لمُستحقّيها لتحفيز قِطاعات الإنتاج.

قُروضاً مُيسَّرة مُنِحَتْ بِمليارات الليرات لدَمج عشراتِ المَصارِف التي تَعَثَّرت ولَمْ يُساءَل كِبار مُساهميها عَن الخسائِر التي غَطّاها مَصرِف لبنان بَلْ رَفَلوا بمَظاهِر تَرَف وثَراء غَير مشروع.

كُلّ هذه المُمارسات العَجيبة التي لَمْ يَشهَد العمَل المَصرفي مَثيلاً لها في العالم، أوصَلَتنا الى هذا العَجز النقدي الكبير الذي كان مُحَرَّماً أن يُحكى عنه لاشهُرٍ خَلَت، وذَلك بتغاضٍ واضحٍ وفاضحٍ من مُختَلف أطياف الطَبَقة السياسيّة الذين شاركوا، بطَريقة أو بأُخرى، بهَذِه «الجَريمة» الكامِلة الأوصاف.

فحَقيقةُ الأرقام اليَوم تَكشِف أنَّ مُجمَل الدَين العام، مُتضمِّناً الإلتزامات الأُخرى المُترتِّبة على الدَولة وعلى مَصرِف لبنان، يَتَجاوز الـ ١٥٠ مليار دولار، مِنها ٥٠ مليار دولار فارِق بين صافي ودائع المَصارِف بالدولار في مَصرِف لبنان، هي عَمليّاً ودائع للناس، وبين صافي مَوجودات مَصرِف لبنان بالدولار!! لقَد جَرَت التَعميَة على هَذه الفُجوة الكَبيرة في حِسابات مَصرِف لبنان على مَدى سَنوات منذ باريس ٢ وهو يُعَدُّ مُخالَفة فاضِحة للقوانين المُحاسبيّة وإخفاءً للحقائِق.

* عن صحيفة "الجمهورية"

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى