سياسةمحليات لبنانية

رأس الحكمة جان عبيد.. يمثلني!

 

د. محمد بسام
لم يترك السياسيون والاعلاميون المتداخلون بمناسبة وداع الراحل الوطني الكبير الاستاذ جان عبيد، مشيدين بسماته الشخصية الحكيمة، وسعة ثقافته واتقاد فكره وغنى تجربته، واعتدال سياسته المرنة فكان الصريح بلا تجريح، ومواقفه الجريئة بما فيها من شهامة وكِبر؛ هؤلاء لم يتركوا لمثلي الكثير للاضافة، وانا الباحث في التاريخ ، فأكتفي ببعض صياغة شبه تاريخية Pseudo-historique  لسيرته السياسية!
جان عبيد مواليد 1939، هو ابن تاريخه وصورة صادقة عن مجتمعه! بدأ ينمو جسديا وفكريا بالموازاة مع طفولة الاستقلال اللبناني، والاخوة اللبنانية السورية قبل 1950، والنكبة الفلسطينية في فلسطين 1948. وفي عز يفاعته عاش مخاضات الافكار السياسية التحررية من الشيوعية الى القومية العربية والسورية، الى ولادة العروبة الناصرية بعد 1952، وتاميم قناة السويس والعدوان الثلاثي واستشهاد البطل السوري جول جمال في المياه المصرية، والوحدة المصرية السورية 1958، والاصلاحات الاجتماعية الاقتصادية زراعة وتصنيعاً، من هنا كانت عروبته الحضارية الصادقة الصافية  الممتدة مع الازمان، مهما لحق بها من سقطات ونكسات، من الانفصال وفكاك الوحدة بين سوريا ومصر 1961، الى نكسة 1967 في مواجهة الكيان الصهيوني، فثبت على المباديء والقناعات القومية والوطنية، وقدّر المعطيات التاريخية الواقعية، فلم ياخذ بالبروبغندات السياسية الرئاسية التي زخرت أنذاك، و لم يؤخذ بالعطيات الظرفية لشراء الذمم الفكرية، ولم يرتد مع المرتدين المزايدين وما اكثرهم وما أتعسهم، ولم ينكر عروبته في عز الاجواء الطائفية من نتاج الحرب الاهلية، وفي اكثر الاماكن حراجة في الصرح البطريركي بعد بيان الـ 2000 الداعي لانسحاب القوات السورية من لبنان فكان القابض على عروبته كالقابض على الجمر؟!

     بدأ صحافيا متنوع الافكار (فاغتنى من اليمين واليسار: الماغازين الاسبوع العربي لسان الحال الصياد الاحرار الانوار) فلم ينحصر بايديولوجيا ولم يستزلم لزعيم، فكان صوت نفسه؛ فانفتحت امامه الافاق السياسية. وفي الاونة نفسها درس الحقوق في جامعة القديس يوسف، فكان العروبي الفرنكوفوني اللامع على طريق التشريع عندما دخل الندوة النيابية.
تعرّف في فتوته على فؤاد شهاب وأُعجب به و"بنهجه وكتابه-الدستوري"، لكن سبق القامات العلمية ومقاماتها، وترقي اوزانها واتزانها لم تترك لمثل جان عبيد الطري العود مجالا لينخرط في ورشة الاصلاح الشهابي، فلم يتورط الرئيس الحكيم شهاب به ولا ورطه معه، كما شهد التاريخ السياسي اللبناني بعده الكثير من الهفوات التدريبية والتجريبية قبل أوانها الطبيعي؟
بعد الصحافي المخضرم شارل حلو، رئيس لبنان منذ 1964، وبعد معركة ثأر "الحلف الثلاثي" من الشهابية عام 1970 بشخص الرئيس سليمان فرنجية (الجد)، كان جان عبيد قد نضج فكرا وتجربة، فبدأ يقترب من الرئاسة الجمهورية، مع الرئيس الشهابي الياس سركيس، منذ 1978، مستشارا سياسيا معتدلا لرئيس معتدل، لم يحْجم حفظا للبنان الامانة الملتهبة، ولم يُقْدِم لضعف المؤونة العسكرية في وجه الميليشيات المتحاربة؛ اللهم الا مبادرته الملتبسة على اعتاب 1982 بطرح رئاسة بشير الجميل بعيد الاجتياح الاسرائيلي للبنان وقصر بعبدا؟ وليس لدي من الاسرار الا ان الفت هنا الى مقارنة غير متكافئة بين استشارية جان عبيد السياسي الدمث الآدمي، والطموحات البهلوانية للعسكري الطموح جوني عبده، والبوْن في التاثير على رئاسة سركيس. وايا يكن فقد كانت لعبيد تجربة غنية في تزاحم الازمات وتقطيع الاشكالات، وتاجيلها ان لم يكن حلّها.
وبعد فاصل من الراحة واصل جان عبيد منذ 1983مسيرته السياسية الاستشارية، قريبا من الرئاسة دون ان يتذوقها، مع رئاسة امين الجميل بعد الرئيس بشير؛ فاذا كانت الاستشارية مع سركيس السهل الممتنع، لاستقامة الاتجاه الاستكمالي للشهابية ولو في ظروف ساخنة، فانها مع امين كانت صعبة معقدة، وتتطلب تقاطعات وابتداعات مع سياسة الرئيس امين اللولبية، التي حفلت بالاخذ والرد: قريبا من سوريا لردها لا لأخذها، وبدا عبيد في هذه المرحلة قسيّ العود صلب القتاد لاستشارية معقدة بفصولها، واهمها فصل اتفاق 17 ايار 1983؟ ولا ندري اذا كان اتفاق الخزي هذا قد وقع على المستشار الرئاسي عبيد ام هو وقع على الاتفاق، انما نعلم ان عبيد وقع على الاستشارية بعد عقد الاتفاق المشْكِل؛ والمحصلة التي تسجل لعبيد انها انتهت الى الغاء هذا الاتفاق السيء الذكر. ولسنا نعرف مدى دور عبيد في الالغاء انما نعرف انه تولى صياغة نص الإلغاء، والمنطق يقول ان متوَلّي الصياغة غالبا مايكون الاقدر على التعبير عن الحيثيات، ما ينبي عن دوره في الغائه، خصوصا وان الرئيس الجميل المتمسك بالانا الرئاسية والمستشار عبيد السياسي الانيق المتكتم ينسجمان في إبقاء الادوار طي الكتمان.
من ناحية اخرى، وبحكم استشاريته للرئيس امين، حضر عبيد مؤتمر جنيف التوفيقي لمحاولة انهاء الحرب الاهلية، بما يتوافق مع سياسته الوسطية والوسيطة.
وقبيل محنة فراغ الرئاسة بعد امين الجميل، استقال عبيد 1987 ، فنجا من اعباء عهد الحكومتين، واستعصاء دولة الجنرال عون في قصر بعبدا، حتى اخراجه منه بالقوة في 13 تشرين اول 1990.
وهنا يذكر التاريخ اقتراب الرئاسة من جان عبيد، ولكنه لم يتناولها حكمة وشهامة؟! بعد اتفاق الطائف كانت الرئاسة من حظ رينية معوض النائب الشهابي (سابقا) المعتدل والمتزن ايضا. ثم كان اغتياله الغامض في ذكرى الاستقلال 22 ت2 1989، وطرحت مسالة الخلافة بالسرعة القصوى، وفي مشاورات سورية لبنانية عاجلة طُرح عبيد للرئاسة ؟ وطُلب الى السيد رفيق الحريري استحضار جان عبيد من فرنسا على وجه السرعة بطائرته الخاصة. وبعد حضوره مأتم الراحل الرئيس معوض توجه مساء 23 ت2 1989 الى سوريا، وحالاً قابل نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام ورئيس الاركان حكمت الشهابي، وبعد مباحثات مضنية ومحرجة بشروطها، وكانت بالمحصلة خائبة، انتقل عبيد الى مباحثة الرئيس بشار الاسد حتى الثالثة فجرا؛ وكان المطلوب منه (كرئيس مطروح) ان يوافق على انهاء تمرد الجنرال عون في قصر بعبدا بالقوة العسكرية اللبنانية والسورية. رفض عبيد العرض واستطرادا الرئاسة، عارضا اخراج الجنرال بالسياسة اولاً باعطائه فرصة التراجع، كما اُعطيت لارباب ميليشيات الحرب الاهلية، كما ويشارك في حكومة توفيقية تضمهم جميعا، رفض السوريون العرض البديل وهكذا طارت الرئاسة من يد عبيد. ولما خطّأهَ الحريري الأب اجاب: رئاستي لم تاتِ ساعتها؟ لم تأتِ ساعتي بعد؟
طارت الرئاسة ولكن الاهلية السياسية لم تطِر، لا بل ترسخت فكانت مسيرته النيابية، بدءاً بالتعيين 1991 ، ثم بالانتخاب أعوام 1992 و1996 و2000 عن المقعد الماروني في طرابلس. عام 2005 اغتيل الشهيد رفيق الحريري، واختلط الحابل بالنابل، وجرت الانتخابات على وهج الدماء وشعارات "ثورة الارز"، وقُرّشت الدماء او سُيِّلت نوابا على متناول اليد، ولم يعد الوقت موائما لجان عبيد الهاديء العاقل المحزون صديق الشهيد، فخرج من المشهد  لياتي العاتي الياس عطالله من قرية الرميلة وقد رُسم نائبا عن طرابلس.
وفي انتخابات 2009 النيابية لم يكن لجان عبيد مكانا في اللوائح، حين اقتضت تسويات 14 آذار استحضارسامر سعادة من البترون نائبا الى طرابلس. واستمر عبيد مرشحا مستقلا، فلم يوفق.
واستمرت هذه الدورة ممددة في فترة نيابية ثانية حتى 2018 ، حين جرت الانتخابات لاول مرة على قانون نسبي، فترشح جانة عبيد مع كتلة العزم عن طرابلس برئاسة نجيب ميقاتي، وفاز لتكون وفاته اليوم ختام نيابته.
وبالعودة الى مسيرة جان عبيد الرئاسية، فبعد فرصة 1989 الخائبة حفظا للكرامة اللبنانية، عادت الفرصة لتتكرر عام 1998، بعد رئاسة الياس الهراوي، فطرح لخلافته اسمان: جان عبيد والعماد اميل لحود، الاول كان يفضله الرئيس حافظ الاسد لثقته به وبعروبته، والثاني يفضله بشار الاسد لان لحود العسكري اقرب الى التنفيذ منه الى الجدال والاعتراض، فيما عبيد يميل الى المناقشة الفكرية  والحيطة الزائدة. وكان غازي كنعان حاضرا فمال الى لحود، ورأى عبيد فعلا صعب المراس، فقد سبق وخيّب امله في طلبين في وزارتيه: التربية الوطنية والشباب والرياضة؛ وهكذا طارت الرئاسة من يد عبيد على يد كنعان الذي فتح باب القفص.
والثالثة لم تكن ثابتة ايضا، عام 2004 انتهت رئاسة لحود واصبح عبيد بلا منافس، اللهم الا اذا تذكرنا رديفه في الترشّح الرئاسي والثقافة والاعتدال والوطنية، وفي العروبة الفلسطينية المناهضة للصهيونية ـ الاستاذ الموسوعي ميشال ادة. وبدا ان الحو صفا لجان عبيد؟! ولكن ساعة نحس اخرت ساعة رئاسة عبيد، عندما طرح قرار 1559 لاخراج القوات السورية  من لبنان، الامر الذي رجح التمديد للرئيس لحود العسكري الصلب؛ وطار ت الرئاسة وعبيد على هدوئه وسكينة نفسه وايمانه بساعة المقادير
ومرة رابعة كانت المقادير لبنانية-لبنانية؟ فبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانقسام السياسيين اللبنانيين بين 8 و 14 آذار، ومع نهاية الرئاسة الممددة للعماد لحود، كان يبدو جان عبيد قاسما مشتركا بين الفريقين؛ لكن انفجار 7و8 ايار 2008 حول  قضية الاتصالات الارضية للمقاومة الاسلامية، خلط الاوراق، واخّر انتخابات الرئاسة لاشهر، فكان مؤتمر الدوحة والاتفاق على العماد ميشال سليمان رئيسا، وطارت الرئاسة باسم التوافق
وفي مرة خامسة توقتعها انا، (واعوذ بالله من كلمة انا) ، حين نشرت بوست فيسبوك يقول: يا رب!! أمَا من "شهاب" آخر؟! عسكري او مدني ؟ ألحّ علي الاصدقاء المعلقون بالسؤال: من تقترح ؟ تهربت من الجواب لضعف حيلتي في هذا المجال، قبل ان اعود للاجابة: جان عبيد او العميد مارون خريش او العميد شامل روكز…..؟ لكن ساعة رحيل االمرشح-الأمل جان عبيد في عيد مار مارون،  كانت اسرع من ساعته الرئاسية؟ رحمه الله ولروحه السلام
قال: الرئاسةُ لمّا تأتِ ساعتُها…….. فاتته فاخرة بيومِ الله !

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى