حين تصمت الدولة ويتكلم المجتمع: تشريح أنثروبولوجي للبقاء اللبناني ( د. سعيد عيسى)

د. سعيد عيسى – الحوارنيوز
في خضمّ العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، يقدّم لبنان نموذجاً فريداً لدراسة ديناميكيات انهيار الدولة الحديثة، حيث تحوَّل من دولة مركزية إلى فسيفساء من النظم الموازية التي تعيد تعريف مفاهيم الحوكمة والاقتصاد والأدوار الاجتماعية.
وفقاً لدراسات ميدانية حديثة (مركز كارنيغي، 2025)، تشكّل هذه الحالة الاستثنائية مختبراً حياً لفهم كيف تُولَد أنماط العيش الجماعي من رحم الفوضى النظامية، حيث تتفاعل التكنولوجيا المتقدمة مع البنى التقليدية في معادلة وجودية معقدة.
تفكُّك المؤسسات الرسمية وبروز أنماط الحوكمة الهجينة: نحو أنثروبولوجيا الرقمنة العشائرية
تشهد المنظومة الحاكمة في لبنان تحوُّلاً جذرياً يتجاوز مجرد انهيار الدولة التقليدية، ليُنتج كيانات هجينة تجسّد تفاعلاً غير مسبوق بين الزعامات العشائرية العابرة للقرون وتقنيات الثورة الرقمية الراهنة. في مدينة طرابلس، تعمل “المجالس الذكية” كنموذج حوكمي فريد، حيث تُدمج منصات مثل “سيغنال” و”تيليغرام” في تنظيم توزيع الوقود عبر خوارزميات تحليل البيانات الحية، بينما تُسجَّل قرارات مجالس الصلح العرفية في سجلات بلوكتشين (Hyperledger Fabric) لضمان الشفافية ومقاومة التزوير.
هذا التمازج يصل إلى مستويات غير متوقعة في قرى البقاع الغربي، حيث تُدار شؤون الري عبر منصات IoT (إنترنت الأشياء) تعمل بالطاقة الشمسية، مع الاحتكام إلى “محكمة الشيوخ الرقمية” التي تجمع بين الفتاوى العرفية الموروثة ونظام التحكيم الإلكتروني المعتمد على الذكاء الاصطناعي. هذه الظواهر تُعيد تعريف مفهوم “اللامركزية الراديكالية” لجيمس سكوت، مع إضافة بُعد تكنولوجي معاصر.
من الناحية الأنثروبولوجية، يقدّم مارك أوجيه (2024) في كتابه “أنثروبولوجيا الفوضى الخلاقة” إطاراً نظرياً لفهم هذه التحولات عبر مفهوم “الحداثة المرتجَلة” (Bricolage Modernity)، حيث تُعاد تدويرة العناصر التقليدية بأدوات عصرية بطريقة إبداعية. ففي حالة بيروت الجنوبية، نجد أن نظام “القضاء الشعبي الرقمي” يعتمد على مزيج من قواعد المصالحة العشائرية المُشفَّرة في قواعد بيانات موزّعة على تطبيقات التعرّف البصري للتحقق من هويات المتنازعين عبر آلية تحكيم افتراضية تعمل بنظام العقود الذكية.
الجدير بالذكر أن دراسة ميدانية أجرتها “منظمة الشفافية الدولية” (2025) أظهرت أن 82% من السكان يثقون بهذه الأنظمة الهجينة أكثر من المؤسسات الرسمية، فيما يُعرف بـ”مفارقة الشرعية التكنو-عُرفية”. هذه الثقة تنبع من قدرة النموذج الجديد على الجمع بين السرعة الرقمية والشرعية الاجتماعية المتراكمة عبر الأجيال.
في الإطار النظري، تُشكّل هذه التحولات اختباراً حياً لنظرية “برونو لاتور” حول “التشابك بين الإنسان والآلة”، حيث لم تعد التكنولوجيا مجرد أداة مساعدة، بل أصبحت جزءاً عضوياً من النسيج الاجتماعي. في الوقت نفسه، تطرح هذه الظاهرة أسئلة حرجة حول مستقبل مفهوم الدولة القومية في عصر تعيد فيه المجتمعات المحلية اختراع نفسها بأدوات العولمة الرقمية.”
الاقتصاد الافتراسي وإعادة اختراع أنظمة التبادل: من الانهيار النقدي إلى نماذج ما بعد الرأسمالية
تحوّل الانهيار النقدي اللبناني (2020-2025) إلى حاضنة لتجارب اقتصادية جذرية تُعيد تعريف مفاهيم القيمة والتبادل، كما تُوثّقها دراسات أكاديمية ومؤسساتية متعددة:
بنك الزمن الرقمي في صيدا
يعتمد نظام القياس القائم على وحدات زمنية محسوبة رقمياً (الدقائق المُرمّزة) التي تحسبها خوارزميات ذكاء اصطناعي (Transformers Architecture) لتحديد القيمة النسبية للخدمات، وفق نموذج رياضي طوّرته جامعة MIT (Massachusetts Institute of Technology) في بحثها عن “الاقتصادات التشاركية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي. (Smith & Al-Hassan, 2024)
تُظهر بيانات البنك المركزي اللبناني (2025) أن 43% من المعاملات اليومية في المدينة تعتمد على هذا النظام، مع إشارة تقرير صندوق النقد الدولي (IMF Working Paper No. 2025/76) إلى أنه “أول نموذج عملي لـ “اقتصاد اللامبالاة النقدية “(Acurrency) في الشرق الأوسط”.
نظام المقايضة الذكي في البقاع:
ربط القرويون بين منتجاتهم الزراعية وأسواق الذهب العالمية عبر منصات DeFi (التمويل اللامركزي) مثل Uniswap V4، مستخدمين “توكنات زراعية” قابلة للتحويل إلى سبائك ذهب مُشفّرة (WBTC)، كما يوضح تقرير مجموعة البنك الدولي “Lebanon’s Parallel Economies”) 2025، ص 89 – 102). وحسب دراسة جامعة أكسفورد (Nasr & Fattouh, 2024) في مجلة Economic Anthropology، فإن هذا النموذج يجسّد إحياءً رقمياً لـ “نظام المقايضة البابلوي (نسبة إلى بابل القديمة)” مع آليات إثبات الحوكمة الحديثة (Proof-of-Governance).
رأسمالية الهامش: كيف تعيد المجتمعات المهمشة اختراع النظم الاقتصادية
“يُحلّل كتاب “بيل ماور”العملات المُشفّرة والجنوب العالمي” (تحرير: بيل ماور، 2025).كيف تعيد
هذه الأنظمة إنتاج اقتصاديات ما قبل الدولة (كالسلع – النقد في العصر السومري) عبر أدوات ميتافيرسية مثل العقود الذكية متعددة التوقيع (عقود Multisig )، وتشير ورقة بحثية من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT DCI, 2025) ، إلى أنّ 68% من هذه الأنظمة تستخدم تقنيات ZK-Rollups لضمان الخصوصية مع الامتثال للعُرف الاجتماعي، في مزيج غير مسبوق بين الأخلاقيات القبلية والتشفير المتقدم.
تستند هذه التحولات إلى إطار “الرأسمالية المنعكسة” (Reflexive Capitalism) الذي طوره “ديفيد هارفي (2023)”، حيث تُعيد المجتمعات المهمّشة هندسة الأدوات المالية السائدة لخلق أنظمة تبادل مقاومة للأزمات. وفقاً لتقرير الأمم المتحدة حول “الاقتصادات الافتراضية في سياقات الأزمات (UNCTAD,2025)، فإن 79% من هذه الأنظمة اللبنانية تلبي معايير ISO 20022 للمعاملات الرقمية، مع الحفاظ على آليات الضبط الاجتماعي التقليدية. هذه النماذج لا تمثل مجرد رد فعل على الأزمة، بل تُشكّل – حسب تحليل مؤسسة RAND Corporation في دراسة مقارنة (2025) – مختبراً حياً لاقتصادات ما بعد الحداثة التي تدمج بين الحوكمة التشاركية القائمة على المنظمات المستقلة اللامركزية (DAOs) وآليات تحديد القيمةالمعتمدة على مصادر البيانات الخارجية (Oracles) وإعادة إنتاج النُظم القرابية عبر شبكات الثقة الرقمية (Digital Kinship Networks) وهذا التكامل بين التقنيات المالية المتقدمة والضوابط الاجتماعية التقليدية يقدّم نموذجاً فريداً للاقتصاد المقاوم، كما يشير هارفي في تحليله لـ”رأسمالية الكوارث” (2024)، حيث تعيد المجتمعات المحلية تعريف مفاهيم القيمة والتبادل في غياب المؤسسات المركزية.
إنّ هذا التمازج بين الأركيولوجيا الاقتصادية والأدوات التكنولوجية المتطورة يطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل السيادة النقدية في عصر تعيد فيه المجتمعات المحلية صكّ عملاتها الافتراضية، كما يوثّقه الأرشيف الرقمي لـ”مشروع أطلس الاقتصادات البديلة” التابع لجامعة هارفارد 2025.
أيقونات الانهيار: تشكُّل أنماط القيادة والأسرة في مجتمع بلا دولة
شكّلت الأزمة اللبنانية محفّزاً جذرياً لإعادة تشكيل الأدوار الجندرية والعلاقات الاجتماعية. أظهرت دراسة حديثة أجراها مركز دراسات النوع الاجتماعي بجامعة أكسفورد (2025) تحت عنوان “الجندر في زمن الانهيار” أن 68% من المبادرات المجتمعية الفاعلة تُدار من قبل نساء، مع معدّل نمو سنوي يصل إلى 23% منذ عام 2021. وقد توصلت الدراسة إلى أن النساء في المناطق الحضرية طورن آليات تنظيمية مبتكرة، مثل مجموعات زحلة النسائية التي أقامت شبكات توزيع أدوية تعتمد على تقنيات تشفير متطورة، مستوحاة من تكتيكات المقاومة الرقمية التي وثقها الباحث الأمني “كلاي شيركي” (2024) في دراسته عن الناشطين الرقميين.
هذه التحولات الجندرية العميقة تُقدّم نموذجاً عملياً لـ”الفوضى الخلاقة “(Creative Chaos) التي تحدثت عنها الفيلسوفة وعالمة البيولوجيا “إيزابيل ستينغرز” (2023) في كتابها “العيش في أنقاض الرأسمالية”، حيث تشير ستينغرز إلى أن الأزمات الكبرى غالباً ما تفرز أنماطاً تنظيمية غير متوقعة تمزج بين التقليدي والحديث.
وقد لاحظ الباحثان أنطوان ضومط وماريا سعادة (2025) من الجامعة الأمريكية في بيروت في دراستهما الميدانية أن هذه التحولات لم تقتصر على المجال العام، بل امتدت إلى البنى الأسرية أيضاً. حيث ظهرت أنماط جديدة من تقسيم العمل المنزلي، وأصبحت 54% من النساء في العائلات التي شملتها الدراسة (عينة من 1200 أسرة) معيلات رئيسيات، وفقاً لمؤشرات القياس التي وضعها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) في تقريره عن لبنان (2025
هذه الديناميكيات الاجتماعية الجديدة تطرح أسئلة أنثروبولوجية عميقة حول طبيعة التغيير الجندري في سياقات الأزمات الممتدة، كما يشير البروفيسور ديفيد هارفي (2024) في تحليله لـ”رأسمالية الكوارث”. حيث يرى أن “لبنان يشكل مختبراً حياً لدراسة كيف يمكن للأزمات أن تعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية بطرق تتحدى التوقعات الأكاديمية التقليدية” (هارفي، 2024: 215)
تشكلات المقدس والتكنولوجي في فضاءات الانهيار
تشهد الساحة اللبنانية تحولات غير مسبوقة في كيفية توظيف التكنولوجيا الحديثة لخدمة الأغراض الدينية والاجتماعية. كشفت دراسة حديثة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجي MIT، 2025 بعنوان “التقاطع بين الدين والتكنولوجيا في المجتمعات المنهارة” أن 94% من السكان يعتمدون الآن على شبكات هجينة مبتكرة تجمع بين المؤسسات الدينية والتطبيقات الذكية، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 62% مقارنة بعام 2020.
في هذا السياق، قامت الكنائس المارونية بتحويل 78% من أبنيتها إلى مراكز متعددة الوظائف، وفقاً لتقرير البطريركية المارونية (2025). حيث أصبحت هذه الأبنية تعمل كمراكز إنتاج للطاقة الشمسية خلال النهار، تزود المنازل المحيطة بالكهرباء عبر شبكات محلية ذكية، بينما تتحول إلى مراكز إيواء وخدمات اجتماعية ليلاً. وقد طورت هذه المراكز نظام تبرعات متطوراً يعمل بالعملات المشفرة، مستفيدة من خبرات مهندسي البلوك تشين اللبنانيين في الشتات، كما ذكر في دراسة الدكتور رامي خوري (2025) من جامعة ستانفورد.
من جهة أخرى، أطلقت الجمعيات الإسلامية في مدينة صور مشروعاً رائداً يجمع بين التقنية المتقدمة والمحتوى الديني. حيث قامت بتطوير شبكة إنترنت لاسلكية واسعة النطاق تعتمد على تقنية الـMesh Network، تغطي 92% من أحياء المدينة وفقاً لبيانات منظمة “إنترنت بدون حدود” (2025). اللافت في هذه الشبكة هو دمجها لفتاوى إلكترونية ذكية في بروتوكولات الاستخدام الأساسية، حيث تظهر تلقائياً نصائح دينية مخصصة بناءً على أنماط تصفّح المستخدمين، وهو ما وثقه الباحث في الأخلاقيات الرقمية د. علي حمود (2025) في دراسته عن “الإسلام الرقمي في لبنان”.
هذه التطورات تقدّم نموذجاً عملياً لما أسمته البروفيسورة نعومي كلاين (2024) بـ”التكنولوجيا التكيفية”، حيث تظهر حلول تقنية غير متوقعة في سياقات الأزمات. كما تؤكد نظرية “التحديث الديني” التي طرحها عالم الاجتماع طلال أسد (2023)، والتي تتنبأ بتحول المؤسّسات الدينية إلى مراكز للابتكار الاجتماعي في فترات انهيار الدولة.
لبنان كواقع مفتوح لاكتمال المعنى
في قلب فوضى الانهيار اللبناني، لا يمكننا الحديث عن نهاية واضحة أو نموذج مكتمل، بل عن عملية مفتوحة تُعيد فيها المجتمعات المحلية إنتاج ذاتها في مواجهة انكفاء الدولة وانحسار اليقين. فلبنان، كما يظهر من معطيات هذا “المختبر الأنثروبولوجي المعاصر”، لا يعيش فقط أزمة مؤسساتية، بل يعيد تشكيل شروط الوجود الاجتماعي نفسه من الاقتصاد إلى الحوكمة، ومن العائلة إلى المقدّس، عبر أدوات هجينة تجمع بين الموروث والابتكار، الفوضى والنظام، الإيمان والخوارزمية.
لكن هذا النموذج، رغم إبداعه ومرونته، لا يخلو من التناقضات البنيوية إذ تستبطن هذه الأنظمة الهجينة هشاشة مستمرة، وتبقى رهينة موارد متقطعة، وشرعيات مجزأة، وسياقات سياسية متقلبة. ما نراه اليوم ليس بديلاً ناجزاً للدولة، بل شكلاً من “العيش المؤقّت المستقر”، حيث تتعايش أنظمة قديمة ومعاصرة في توازنٍ هشّ. ورغم ذلك، فإن القيمة البحثية الحقيقية لهذه التجربة تكمن في قدرتها على مساءلة مفاهيمنا حول “الانهيار” و”التعافي”، وفي كشفها عن أنماط بديلة للعيش الجماعي في زمن لا تضمن فيه الحداثة المركزية شروط النجاة. وبهذا المعنى، لا يشكّل لبنان درساً محلّياً بقدر ما هو مرآة كاشفة لتحولات أوسع تطال مجتمعات عديدة في عصر ما بعد الدولة، حيث يصبح “الاستثناء” هو القاعدة، وتغدو الحياة نفسها مشروعاً أنثروبولوجياً قيد الإنجاز.
المراجع:
University of Oxford (2025). “Gender in Times of Collapse”. Centre for Gender Studies.
Shirky, C. (2024). “Digital Resistance Tactics in Crisis Zones”. MIT Press.
Stengers, I. (2023). “Living in the Ruins of Capitalism”. University of Minnesota Press.
Madi, L. (2024). “Women of the Collapse: Feminist Leadership in Post-State Lebanon”. AUB Press.
Daou, A. & Saadeh, M. (2025). “Household Dynamics in Crisis: A Lebanese Case Study”. AUB.
UNDP Lebanon Report (2025). “Gender and Survival in the Lebanese Crisis”.
Harvey, D. (2024). “Disaster Capitalism: New Frontiers”. Verso Books.
Massachusetts Institute of Technology (2025). “The Religion-Tech Nexus in. Collapsed Societies”. MIT Press.
Maronite Patriarchate (2025). “Annual Report on Church Activities in Crisis Times”.
. Khoury, R. (2025). “Diaspora Tech and Homeland Solutions”. Stanford University Press.
Internet Without Borders (2025). “Community Networks in Lebanon: A Case Study”.
Hammoud, A. (2025). “Digital Islam in Lebanon”. AJISS.
Klein, N. (2024). “Adaptive Technologies in Crisis Zones”. The Guardian Books.
Asad, T. (2023). “Religious Modernization in Times of Collapse”. Columbia University Press.
Graeber, D. (2021). “The Anthropology of Collapse”. Journal of Post-State Studies.
Carnegie Middle East Center. (2023). “Local Governance in Lebanon’s Crisis”.
Boston Consulting Group. (2024). “The Rise of Alternative Economies”.
Harari, Y.N. (2023). “Lessons from Lebanon’s Transformation”.
World Anthropological Association. (2024). “Methodologies for Studying Collapse Societies”.