ثقافة

العلاقة بين الشأن الثقافيّ والعمل السياسيّ(محمد قجّة)

محمد قجّة – الحوارنيوز خاص

 1 – الثقافة في البنيان الاجتماعي هي العقل المفكّر الذي يفترض أنه يضع الأسس الفلسفية للمنظومات الفكرية والعقلانية.أما السياسة فهي العقل المدبّر الذي يسترشد بتلك الأسس الفلسفية التي أرستها الثقافة.

ولكن هذا الطرح النظريّ قد لا يجد صداه في الإطارات المرجعيّة للعلاقة بين السلطة والمثقف، أو بين السياسة والثقافة، هذه العلاقة التي يحددها فهمنا لمدلول “السياسة” وتفسير هذا المدلول. فعلى مدى التاريخ البشري كان السياسيّ يرى في إطارات المجتمع المختلفة -ومنها الثقافة- رديفاً له، يملكه ويروّضه، ويجعله مذعناً لرؤيته، يفلسفها ويدافع عنها ويبررها.

2 – وفي المقابل فإن ديموقراطية الثقافة تعني أن تكون الثقافة إحدى المرجعيات الفاعلة في المجتمع، وليست مفصلاً في حركة السلطة، ففي تفعيل الديموقراطية الثقافية يغدو المجتمع مرجعيّاتٍ شتّى متكاملة ومتبادلة ومتداخلة، وتغدو الثقافة العقل المرجعيّ وليس المنبر المبّرر المفسّر لتوجّهات السياسة.

3 – إن واقعنا العربي المعاصر جزءٌ من حركة التاريخ بمؤثراتها وتشعّباتها، ونحن في سبيلنا إلى تعميق الديموقراطية الثقافية وتطوير علاقتها بالسلطة السياسية، يجب علينا أن نحاول الانتقال من العلاقة التنافريّة التغالبيّة إلى العلاقة التحاوريّة التبادليّة، التي تسعى إلى تطوير السائد بدلاً من تسويغه المستمر.

*****

4 – إنه سؤالٌ قديمٌ متجدّد ما يزال مطروحاً، وما تزال النخبة العربية المثقفة تحاول الإجابة عليه، تلك النخبة العربية المأزومة منذ أكثر من قرن وهي تحاول بلورةَ الصيغة النهضوية لمواجهة تحديات واقعها الممزّق، ومواجهة تحدّياتٍ أكبر تلوح في القرن القادم.

هذا السؤال واسعٌ ومتشعب.. فنحن اليوم في عالمٍ يفرض علاقاتٍ غير متكافئة، ويحاول من خلالها فرض قيمٍ جديدة وإلغاء خصوصيّات الثقافات والحضارات الأخرى، عالمٍ ينزلق إلى تكريس صراعاتٍ من المفترض أنها قد تلاشت: صراعاتٍ عرقيّةٍ وإثنيّةٍ وطائفية، وإغراقٍ في مواقف التطرّف ومحاولةِ طمس الآخر وتهميشه وتسطيحه، ومحاولة تأكيد هيمنته المركزية الحضارية الغربيّة، ممثّلةً بالنموذج الأمريكي الذي يزحف غولاً مخيفاً يلتهم كل الذوات الخاصة الأخرى.

5 – إنها حالةٌ لم تعرفها البشرية من قبل في تاريخها، حالةٌ من انعدام التوازن العالمي والحضاري والاقتصادي..

ففي جهةٍ يقوم نموذجٌ استهلاكيّ يمتلك وسائل التقنية المعاصرة وأدوات الاتصالات وثورة المعلومات، ولكنه يفكّر بعقلية راعي البقر الذي يسوق القطيع بسوطه، وهمّه من هذا القطيع مزيدٌ من العائد المادي.

وفي الجانب المقابل قارّاتٌ وشعوب وأمم وُضعتْ على هامش المجتمع البشريّ، وتمّ إخراجها من السياق التاريخي، أو تتمّ محاولة إخراجها من هذا السياق، لتصبح مجرّد أرقام تافهةٍ تقدّم للسيد الأكبر اليد العاملة الرخيصة، والسوق الاستهلاكية الواسعة.

6 – اننا اليوم –ونحن نستقبل تطورات القرن الحالي ،  نعيش عمليةً تاريخيةً كبرى يتعمّق مسارها في جسم المجتمعات البشرية كافّة: متقدّمةً وناميةً ونائمة. هذه العملية التي أُطلق عليها تسمية “العولمة” بأبعادها السياسية والاقتصادية والتقنية والثقافية والإعلامية.

*****

إننا في الوطن العربي بحاجةٍ إلى وقفةٍ متبصّرة من هذه الظاهرة التي تحتاج العالم، فموقف الرفض المطلق المبنيّ على أسس أيديولوجيةٍ أو قومية، لا يفيد في رصد جوانب الموضوع.

وموقف الهرولة والانبهار خطيرٌ جداً، ويقود إلى الانسلاخ عن حركة التاريخ وإلغاء الذات والذوبان في الآخر. إننا مطالبون بالتفاعل مع الأحداث التاريخية المعاصرة بمنطق الأخذ والعطاء، منطق الفاعل والمنفعل.

7 – ومن هنا يأتي دور المثقف العربي في هذه المرحلة، وهو دورٌ حاسمٌ وفائق الأهمية، ويبرز هذا الدور في ضرورة المحافظة على الثقافة الخاصة في إطار الطوفان الإعلامي والمعلوماتي والتقني، لأن الثقافة العالمية لا يجوز لها بأي حالٍ من الأحوال أن تبتلع الثقافات الوطنية، وحضارات الأمم الآخرى.

وتكمن خطورة الموضوع في أن حركة “العولمة” تتداخل فيها العمليات السياسية والاقتصادية والثقافية، وهي تستفيد من التقدّم التقني الهائل في الدول الصناعية، وهي توظّف كل ذلك التقدّم في سبيل الهيمنة المطلقة على العالم وتأكيد النمذجة الغربية في مثالها الأمريكي الذي يلغي الآخر أو ينفيه أو يهمشه أو يضعه خارج نطاق التاريخ.

8 – إن مجتمعنا العربي لم يشهد في تاريخه تحدّياً يماثل هذا التحدّي وقوىً طاغيةً مثل التي تحاول اليوم شرذمتنا وإلغاء وجودنا الحضاري والثقافي: العولمة على المستوى الكَونيّ، التطبيع على المستوى الإقليمي، التفتيت والتحجيم على المستوى المحلي.

إن إعادة التوازن الإنساني بين القيم المادية والقيم العقلانية والعرفان  الروحي ،  أصبح أمراً ملِحّاً في عالمٍ يحاول صياغة الإنسان في قوالب ماديّةٍ استهلاكية جامدة. وسوف يجد المثقف العربي أن الدور الذي يضطلع به اليوم هو دورٌ محوريٌّ مستقبلي تنبني عليه قواعد الوجود الحضاري في المستقبل العربي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى