الحكومة الذكية في لبنان: بين خطاب الحداثة وواقع الانهيار البنيوي(سعيد عيسى)

بقلم د. سعيد عيسى – الحوارنيوز
يشهد العالم اليوم عصر “التحوّل الرقمي” الذي يدفع الحكومات نحو تعزيز كفاءة خدماتها العامة وترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة، بهدف تمكين المواطنين من المشاركة الفعالة في صنع القرار. وفي هذا السياق، يبرز مفهوم “الحكومة الذكية” كإطار متكامل يعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن، مستندًا إلى الابتكار والتكنولوجيا. ورغم التحديات الجمّة التي يواجهها لبنان، فإن تبنّي هذا المفهوم يُطرح غالبًا كفرصة حقيقية لتحسين الحوكمة وتحقيق التحوّل المنشود. لكن هل تكفي الأدوات الرقمية وحدها لإنقاذ دولة مأزومة؟
ما هي الحكومة الذكية؟
تعتمد الحكومة الذكية على الاستثمار الأمثل للأدوات الرقمية مثل البيانات المفتوحة، الذكاء الاصطناعي، الخدمات الإلكترونية، والتطبيقات الذكية، بهدف تقديم خدمات سريعة وفعالة، وتعزيز المشاركة المجتمعية والمساءلة. غير أن هذا التصوّر التقني يتغافل عن السياق السياسي والاجتماعي الذي تُطبَّق فيه هذه الأدوات. فالحكومة الذكية ليست مجرد برمجيات متقدّمة، بل هي انعكاس لعلاقة الدولة بمواطنيها، وهو ما يطرح تساؤلات جدّية في السياق اللبناني.
لبنان بين الإعلان والتنفيذ
شهد لبنان في السنوات الأخيرة مبادرات متعدّدة في مجال الرقمنة، مثل إطلاق بوابة الحكومة الإلكترونية، مشروع تطوير السجل التجاري، رقمنة حقوق الملكية الفكرية، وتوفير الدفع الإلكتروني لبعض الرسوم. إلا أن العديد من هذه المبادرات ظلّ حبيس الإعلام والإعلان عنه، أو واجه صعوبات لوجستية وهيكلية عطّلت تنفيذه. فمشروع مكننة المحاكم، مثلاً، بدأ جزئيًا لكنه تعثر بسبب انقطاع الكهرباء ونقص البنية التحتية، ما يطرح سؤالاً جوهريًا: هل يمكن لحكومة تعجز عن تأمين الكهرباء أن تكون ذكية؟
التحوّل الرقمي: فرصة أم قناع؟
يحمل التحوّل الرقمي، نظريًا، إمكانات لردم الفجوة بين المواطن والدولة، لكنه في السياق اللبناني يبدو أقرب إلى قناع تكنولوجي يُجمّل أزمة بنيوية عميقة. فكيف يمكن الوثوق بخدمة إلكترونية من دولة لا ثقة بعدالتها أو نزاهتها؟ وما جدوى شفافية رقمية في ظل غياب المساءلة الفعلية؟ التكنولوجيا لا تبني الثقة، بل تكشف هشاشتها إذا استُخدمت خارج بنية أخلاقية وقانونية متماسكة.
رقمنة اللامساواة
في بلد تُوزّع فيه الخدمات على أسس زبائنية وطائفية، يُخشى أن تصبح الرقمنة وسيلة لتكريس اللامساواة بدلاً من تقليصها. فالوصول إلى الخدمات الذكية سيتفاوت تبعًا للمنطقة، وللقدرة التقنية، والبنية التحتية. وهكذا، تُعيد الحكومة الذكية إنتاج الفجوات نفسها التي تعانيها الدولة الورقية، لكن بلغة برمجية.
تحديات بنيوية لا تقنية
من أبرز العقبات أمام هذا المشروع: ضعف البنية التحتية، شحّ الموارد، مقاومة التغيير داخل الإدارات، وغياب استراتيجية وطنية شاملة. حتى اليوم، لا يزال حق الوصول إلى المعلومات معطلاً فعليًا، والشفافية مجرد شعار. ومع غياب الإرادة السياسية، تصبح الرقمنة مجرّد واجهة حداثية فوق بنية منهارة.
من المواطن إلى المستخدم
هناك خطر آخر في الخطاب الرقمي: تحويل المواطن من فاعل سياسي إلى مستخدم سلبي. يُطلب منه التفاعل مع المنصة، تقييم الخدمة، وربما إرسال ملاحظاته، لكن دون قدرة فعلية على التأثير أو المحاسبة. وهذا يعكس اختزال المواطنة إلى تفاعل تقني يُفرغها من مضمونها السياسي والاجتماعي.
نحو دولة لا منصة
لا شك أن الرقمنة يمكن أن تساهم في تحسين الإدارة، لكنها ليست غاية بذاتها. المطلوب ليس فقط حكومة ذكية، بل دولة عادلة. فقبل أن نحدّث المنصات، علينا أن نعيد بناء العقد الاجتماعي. وفقط عندما تُستخدم التكنولوجيا كأداة لتمكين المواطن، لا لتحييده، يمكن للرقمنة أن تُحدث تحولاً حقيقياً.
في الخلاصة، التحوّل الرقمي في لبنان قد يكون فرصة، لكنه لن ينجح إلا إذا ترافق مع إصلاح بنيوي في العلاقة بين الدولة والمجتمع، يقوم على الشفافية الفعلية، العدالة التوزيعية، والمشاركة الحقيقية. الحكومة الذكية ليست مشروعًا برمجيًا، بل هي مشروع سياسي وأخلاقي بامتياز.