رأيسياسة

الإمام الصدر والمرجع السيستاني:منطق الوطن والدولة في مواجهة عبث الساحة ووهم النفوذ(يوسف كالوت)

يوسف كلوت- خاص الحوار نيوز*

 

  لا يُمكن الحديث عن الإمام السيد موسى الصدر بمعزل عن ما كانت عليه ماهية وجوده في الشأن العام الوطني، وإلا أصبح الكلام عنه باستخدام مِيَزه الشخصية وبعض مقولاته المتفرقة حجباً لهذه الماهية الأصيلة الفعَّالة. فيُصبح، والحالة هذه،”أيقونة” منفصلة عن الزمان والمكان، يمكن استحضارها واستخدامها في اتجاهات متناقضة، وهو ما يتم فعلاً حتى من أضداده إنتماءاً وفكراً وفقهاً وسياسة، وهذا أمر مقصود لأنه يطمس بالنفاق عملية استكمال ضرب نهجه الفقهي السياسي الوطني الإصلاحي غير التبعي وغير الآداتي لأي نظام أو سلطة داخلية أو خارجية.

لم يستورد سماحته مشروعه السياسي وأيديولوجيته من الخارج، بل رسَّخ إنتماء المسلمين الشيعة في لبنان للوطن والدولة، فعَمِل في الشأن العام الوطني وفقاً لمشروع سياسي وطني إصلاحي رؤيوي صنع أيديولوجيته وفكره باجتهاده الأصيل على مستوى الفقه السياسي، وهو اجتهاد نابض بالحيوية والحياة والاستقلال، واعٍ بشكل عميق لظروف الزمان والمكان. وقد ارتكز في سياق هذا المشروع على شعبية عارمة موَّلت نشاطه العام بجهودها وعرق جبينها.

بهذه الرؤية وهذا التمويل والتأييد من الناس إكتسب مشروعية مزدوجة، مشروعية فقهية ذاتية ومشروعية شعبية. وكان سماحة الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله قد وصف مشروعية الإمام الصدر الشعبية بالقول: “لم يستند في وجوده إلى معادلة سياسية، أو توازنات بين القوى، وإنما إستند إلى الشعب إلى الإنسان المحروم الذي غدا الإمام قلبه الخافق وصوته وإحتجاجه على البؤس والحرمان”.

حصَّن الإمام الصدر بهذه المشروعية المزدوجة قراره السياسي ومواقفه من التبعية لأي نظام أو سلطة، فقاد بيئته الإجتماعية بالمعادلة الأساسية التالية: الإنتماء للوطن ومصالحه دون الإرتباط بأي دولة ونظام خارج الحدود. الإندماج الوطني على قاعدة أن “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه”. الدفع باتجاه تطوّر هذه البيئة بتراكم الجهد الذاتي الإصلاحي في شؤونها الداخلية وفي علاقاتها الوطنية وفي المجتمع وفي الدولة. جماعة تدير نفسها بقرارها الذاتي على قاعدة مشروع وطني إيماني يقوم على تقاطعات الإصلاح مع المكونات اللبنانية الأخرى، مشروع وطني يسعها ويسع غيرها من خلال بناء الدولة ومؤسساتها، تشكل مقاومة العدو الإسرائيلي باستراتيجة وطنية، نظرياً وعملياً، عنصراً في هذا المشروع وليس العكس، مشروع يؤيد قضايا المحيط العربي والإسلامي المحقة، لا سيما القضية الفلسطينية، على قاعدة استقلالية قراره، أي تأييدها من دون الإنضباط باستراتيجيات الأنظمة التي تستثمر في هذه القضايا لمصالحها القومية وأوهامهما السلطوية. مشروع لا يحول الوطن إلى ساحة والناس إلى أذرع وأوراق ورسائل متفجرة.

لا يمكن لوجهة الإمام الصدر المذكورة أن تعود إلى حيز الفعل الوطني اللبناني البنائي المؤثِّر والجامع من دون أن يتمايز التشكيل السياسي الذي يتَّخذ الإمام الصدر عنواناً له، تمايز يستند إلى الوجهة المماثلة لها التي أرستها المرجعية الدينية العليا الراهنة في النجف الأشرف (سماحة السيد علي السيستاني حفظه الله) على قاعدة مقولة “ولاية الشعب على نفسه” في وطنه، وبالشراكة مع طاقة الإنتفاضة التشرينية والقوى الوطنية العراقية الأهلية منها والمدنية. وقد تقدم المسار العملي لهذه الوجهة في العراق مع انعقاد “قمة بغداد للتعاون والشراكة” بعد زيارة بابا الفاتيكان، والتي افتتحت نموذجاً توحيدياً جامعاً، نموذج يحمل في بنيته إمكانية استعادة العراق كوطن، وذلك بالتفلُّت من التوازنات السلبية الأميركية الإيرانية التي حوَّلت الأوطان إلى ساحات والناس إلى أوراق وأذرع متفجرة، وهو تفلُّت وطني بنائي جامع. وعليه فإن لبنان لن يستعيد وجوده كوطن ودولة ومؤسسات إلا بالإقتداء بهذا النموذج العراقي الجامع، وهو بالأصل نموذج مشابه للنموذج الذي قاد الإمام الصدر المسلمين الشيعة في لبنان وفقاً له كما ذكرنا.

هذا وتتلخص وجهة المرجعية الدينية العليا الراهنة في النجف الأشرف بالمقولات الفقهية السياسية الوطنية التالية:

– إنّ المرجعية الدينية ستبقى سنداً للشعب العراقي الكريم، وليس لها الاّ النصح والارشاد الى ما ترى أنه في مصلحة الشعب، ويبقى للشعب أن يختار ما يرتئي أنه الأصلح لحاضره ومستقبله بلا وصاية لأحد عليه. (خطبة الجمعة 29-11-2019)

– “… حَلُمَ به الآباء….. ، وهو أن يكون العراق سيد نفسه يحكمه أبناؤه ولا دور للغرباء في قراراته، يستند الحكم فيه الى إرادة الشعب ويكون حكماً رشيداً يعمل لخدمة جميع المواطنين على اختلاف إنتماءاتهم القومية والدينية، ويوفر لهم العيش الكريم والحياة السعيدة في عزّ وأمان، …” (خطبة الجمعة  10/1/2020).

– إنّ الحكومة إنما تستمد شرعيتها، في غير النُظُم الإستبدادية وما ماثلها، من الشعب، وليس هناك من يمنحها الشرعية غيره، … (خطبة الجمعة 15-11-2019)

-…. وللمواطنين كامل الحرية في التعبير ـ بالطرق السلمية ـ عن توجهاتهم … والمطالبة بما يجدونه ضرورياً لصيانة السيادة الوطنية بعيداً عن الإملاءات الخارجية. (خطبة الجمعة 25-1-2020).

– والمرجعية الدينية …. تؤكد على حرمة الإعتداء على المتظاهرين السلميين ومنعهم من ممارسة حقهم في المطالبة بالإصلاح، …(خطبة الجمعة 29-11-2019)

– إنّ المرجعية الدينية تؤكد موقفها المبدئي من ضرورة احترام سيادة العراق واستقلال قراره السياسي ووحدته أرضاً وشعباً، …  (خطبة الجمعة 25-1-2020).

بالعودة إلى الإمام الصدر، فقد ظُلِم هذا الرجل الإستثنائي أكثر من مرة، ظُلِم هو ونهجه وما زال يُظلم …

ظُلَم يوم افترى عليه الٌإقطاعين السياسي والمشيخي، وكذلك العديد من القوى اليسارية واليمينية، وذلك باتهامه في منطلقاته وخلفياته واستهدافاته، بعدما عجزوا عن استيعابه وضبطه وتصنيفه، وكيف يستطيعون ذلك وهو المفكر الحر المنفتح على قاعدة إيمانية توحيدية جامعة، و”المفكر الحر يستحيل تصنيفه” على حد تعبير صديقه وصنوه د. علي شريعتي.

وظُلِم يوم اختَطَفته معادلات محلية وإقليمية سلطوية وأخرى كانت في طريقها إلى السلطة، وذلك بغية استتباع قرار بيئته وتحويلها إلى بنية وظيفية آداتية لخدمة نفوذهم الموهوم ومشاريعهم وتوازناتهم السلطوية. ويُظلم الآن بتصويره شخص فرد له فضل وميزات وخصائص! وتغييب كونه نهجا ونمطا من الفهم للدين والتدين وممارستهما، نهج يختلف جذرياً عن مناهج القائمين اليوم على المنابر الدعوية وغير الدعوية، وأيضاً تغييب كونه مشروعاً سياسياً وطنياً إصلاحياً مستقلاً عن الأنظمة، مشروع ذو منطلقات إيمانية فقهية إصلاحية غير آداتية، مشروع مختلف بشكل جذري عن ما هو سائد سياسياً الآن في بيئته على مستوى الإنتماءات والمنطلقات وآليات العمل والإستهدافات.

ويُظلم الآن بالكثرة المستجدة في الكلام عنه من أضداده، كثرة مستجدة في الكلام عنه على قاعدة استخدام شخصه ومقولاته كـ “قطع غيار” تُستحضر بشكل متفرِّق ومُجتزأ منفصل عن مشروعه الفقهي السياسي الوطني الرؤيوي وسياقاته. وأغلب الظن أن هذه العمامة الصدرية الأصيلة الواعية المستنيرة الوحدوية الوطنية العروبية الإصلاحية فكراً وخطاباً وممارسة تُستحضر على هذا النحو المُشوَّه، حتى من أضدادها، لأنها ما زالت -كما يبدو- تمتلك فائض في المشروعية، فائض يضع الكثيرين أفراداً وقوى في موقع الإستجداء لها لاجتذاب عامّة الناس والنخب، الذين ما زالوا مسكونين بموسى الصدر، مسكونين بنهجه ونمط فهمه للدين والتدين، وبنمط مقاربته للأمور، وبحضوره السياسي الوطني المستقل الفعَّال في الشأن العام … يُستحضر موسى الصدر على هذا النحو المُشوَّه بغية التمكُّن من الإستفادة منه كرصيد رمزي مع حجب نهجه المذكور الذي لا يصب في صالحهم، يُستحضر موسى الصدر على هذا النحو المُشوَّه لأن المناهج السياسية الفعَّالة الآن التي بُنِيت على غيابه هي على عكسه تماماً. إنه يُظلم إذ يٌستخدم هو ومقولاته لطمس رؤيته وتهميشها وتهشيمها.

قد يُخيَّل لأضداد الإمام الصدر فكراً وفقهاً وسياسةً وممارسة أن رؤيته الأصيلة التأسيسية قد غُلبت، ويُخيَّل لهم أنهم يستطيعون بالميديا والتذاكي استيعابها وإدراجها كمواد أولية في سياقاتهم بعد تمييعها مواربة وتغييبها من الذاكرة الفعَّالة، إلا أن ما هو أصيل يكون عصياً على المصادرة والإستيعاب والإندثار، لأنه  يتحوَّل معياراً كاشفاً شديد الحضور، معيار يُؤرق الكثيرين.

*دكتوراه في علم الاجتماع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى