رأي

حذار الإنقياد للغرائز الطائفية ..فالحرب الأهلية(محمد هاني شقير)

 

كتب محمد هاني شقير

في لحظة أمنية أو سياسية، وحتى اجتماعية ذات طابع طائفي، قد يحدث انفجار هائل، فتفتّش لتجد أبطاله قطعانًا من الذباب الإلكتروني، ووقوده الناس العاديّون.

وكأنّ اللبنانيين ينتظرون حدثًا ما، ليبدأوا بثّ أمراضهم الإعلامية الطائفية والمذهبية، فيتقيأون ما يعتصر في نفوسهم من حقد وكراهية تجاه كلّ شيء! وكأنّهم يعيشون في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية طبيعية، ولا ينقصهم سوى التسلية على صفحات التواصل الاجتماعي، حيث يستعرضون بطولاتهم وعضلاتهم و”تفاهاتهم” ،متناسين أنّهم كبقية الناس ممّن تلتفّ الأزمة الاقتصادية على رقابهم، يعجزون عن تأمين متطلّبات حياتهم البسيطة ، على الأقلّ شراء مياه الشرب، وتأمين رغيف الخبز، وقوت اليوم، وملء خزان وقود درّاجاتهم الآلية بما ييسّر تنقّلاتهم الضرورية، فضلًا عن أنّ معظمهم يفضّل الموت في المنزل على الدخول إلى المستشفى للمعالجة، نتيجة عجزه عن تأمين ثمن الدواء، لا فاتورة الاستشفاء فحسب.

وكي أكون موضوعيًّا، سأبدأ بحادثة “واتس آبيّة” حصلت معي في مجموعة تشاركتها مع عدّة أشخاص، التأموا للبحث في القضايا الوطنية ومناقشتها من الموقع الوطني الديمقراطي، فإذا بهم يتململون من منشوراتي، ويتضايقون من آرائي، إلى أن قرّروا فصلي عن مجموعتهم، وقراءتي لذلك، فقط لأنّهم حاقدون على طرف سياسي معين. فأنتَ معهم، حتّى وإن كنت موضوعيًا، لا يلبثون أن يلفظوك، وكأنّ سلوكهم هذا، لا يختلف عمّا يمارسه أهل أحزاب السلطة، بحيث يفترض بهم أن يكونوا واجهتها المعتدلة حيث يجب!

أمّا أحزاب السلطة أنفسهم، فجاهزون ومستعدّون لذرّ الرماد في عيون الطيّبين، فيستغلّون كلّ حدث، مهما كان نوعه وشكله؛ ليطلقوا العنان لذبابهم الإلكتروني، فيشحنون وسائل التواصل الاجتماعي بمعلومات وأخبار، معظمها ملفّق أو مفبرك، أو مشوّه، بهدف التعويض عمّا هم قاصرون عن تحقيقه حيال أهلهم وناسهم ومؤيّديهم، ثمّ سوقهم إلى لغة العنف والتصدّي، ومنطق البطولة، وإلهائهم بشعارات لا تسمن ولا تغني من جوع.

وفي هذا السياق، أدرجُ الحادثة التي وقعت مؤخّرًا في إحدى مناطق قضاء عاليه، وما جرّت خلفها من تصرّفات وسلوكات أخذت منحى عدوانيًّا بين الأطراف المتصادمة، لم يخلُ من اللحظة الأولى من التنافر السياسي والطائفي والمذهبي، وعليه راح كثير من وسائل التواصل الاجتماعي الموجّه – كلّ على حسب فنونه- يخطّ ويرسم السيناريوهات التي تخدم مصالح هذا الطرف أو ذاك. وبغض النظر عن حقيقة تلك الحادثة وظروفها، وللجيش والقوى الأمنية وحدها معالجة تداعياتها، فإنّ ما استخدمته هذه المواقع من مادّة إعلامية، وأبشعه ما كان بنكهة الطائفية وتهويلاتها، كان كفيلًا بإشعال نار الفتنة والحرب من جديد في لبنان، وفي جميع مناطقه، في حين اختفى صوت العقل والمنطق، أو ربّما تحفّظ صاحبه من تناول القضيّة؛ كي لا يقع فريسة التخوين الذي يلجأ إلى لغته “رعاع” أحزاب السلطة وحلفاؤهم.

صوت العقل، في مثل هذه الظروف، لا يُحسد عليه، فهو الذي يأنس إلى المنطق، ويخاف على الوطن، ويعمل لصونه، وتجنيب أبنائه من الانزلاق نحو فتنة أو حرب أهليّة.

صوت العقل، هو الذي يُقيم للوطن وزنا حقيقيًّا بعيدًا من المذهبية والعصبية والمحسوبيّات التي يمارسها من نفشوا ريشهم باسم الدين، وآخرون أبرزوا عضلاتهم باسم الوطنيّة الزائفة، وآخرون شمخوا بأنفهم باسم الولاء الكاذب… وما دخل في رتَبِهم، حتّى لتشعر أنّ استماتتهم في الدفاع عنه – بصفته ضحيّة – هي فرض وجودي أو إلهيّ، في حين ليس الوطن في الواقع غير الجثّة التي يزايدون عليها ويتاجرون بدمها.

ولشبابنا الذين ولدوا بعد اتّفاق الطائف، لكم منّي ومن جيلي هذه النصيحة: احذروا من الانقياد لغرائزكم التي تتغذّى بأتون الحرب الأهلية، فنحن جرّبناها على مدى سبعة عشر عامًا، فما جرّت علينا وعلى وطننا إلّا الويلات والمآسي والخراب. واعلموا أنّ حربًا تستديم اشهرًا وأعوامًا وعقودًا ضدّ العدو، مهما أوتي من قوّة وجبروت وإجرام، لهي أشرف وأسهل بمئات المرّات ممّا تسبّبه الحرب الأهلية من دمار  للوطن على جميع الصعد. ويكفي أن ننشّط ذاكرتكم بملف لا يزال جرحه مفتوحًا حتّى يومنا هذا، وهو قضية المفقودين في الحروب الأهلية، وهم بعشرات الآلاف، وقلوب أمّهاتهم لا تزال تعتصر عليهم ألمًا.

وإذا كان للكلام خلاصة، فخلاصة هذه الصرخة، أنّنا – نحن اللبنانيّين- مطالبون بإعادة صياغة مفاهيم المواطنة الحقّة في عقولنا، بعيدًا من حسابات الطائفية والمذهبية والمصالح الضيّقة، وليعذرني أصحاب المقامات الدينية ومن وقَف في صفوفهم، فدينكم بينكم وبين ربّكم، ووطنكم لكم ولكلّ من تعيشون معهم فوق أرضه. فهل مَن يسمع في لجج الهيجان الطائفي الغادر؟

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى