سياسةمحليات لبنانية

من دفتر الذكريات: بين الحسيني والهراوي..وألبير منصور ( واصف عواضة)

 

 كتب واصف عواضة – خاص الحوار نيوز

رحيل الرئيس حسين الحسيني يفتح الذاكرة على حوادث كثيرة ،بعضها لا يخلو من الطرافة ،ويعبر عن طبيعة العلاقات بين المسؤولين اللبنانيين.

لم تكن علاقة الرئيسين الراحلين الياس الهراوي وحسين الحسيني علاقة سويّة على الرغم من الهوية البقاعية التي تجمعهما ،ولطالما شهدت هذه العلاقة خلافات في وجهات النظر ،وكنت على مقربة من الرجلين بحكم مهنتي كصحافي، وقد رافقتهما في الكثير من رحلاتهما الخارجية ،وعادة تنفتح خلال السفر الكثير من صناديق الأحاديث المقفلة.

 

أشرف الرئيس الحسيني كرئيس لمجلس النواب على انتخاب الهراوي رئيسا للجمهورية بتاريخ 24 تشرين الثاني عام 1989 في بارك أوتيل شتورة في جلسة أعقبت إغتيال الرئيس رينه معوض بأيام قليلة،وقد تسنى لي حضور جلسة الانتخاب وتغطية وقائعها لتلفزيون لبنان.

كان البلد منقسما على نفسه شر انقسام.العماد ميشال عون يرأس حكومة عسكرية بعنصرين ،مستوليا على قصر بعبدا. سارع الرئيس الهراوي إلى تشكيل حكومة برئاسة الرئيس سليم الحص عُيّن فيها ألبير منصور وزيرا للدفاع.

أمضت البلاد فترة سياسية وأمنية صعبة طوال 11 شهرا في عهد الحكومتين،وفي ظل الرئيس الهراوي الذي أمضى فترة من الزمن في ثكنة أبلح ،ثم انتقل إلى المقر الرئاسي المؤقت في الرملة البيضاء في بيروت – منطقة “سبينس” .

في 13 تشرين الأول 1990 سقطت حكومة العماد عون في عملية عسكرية مشتركة بين الجيش اللبناني بقيادة العماد أميل لحود والجيش السوري، ولجأ العماد عون الى السفارة الفرنسية وبعده إلى فرنسا.وكان هذا الحدث إيذانا بانتهاء الحرب في لبنان.

 

إنتهت الحرب وكان من الطبيعي تشكيل حكومة جديدة برئاسة الرئيس عمر كرامي.عُيّن البير منصور وزيرا للإعلام في هذه الحكومة. كانت الخطوة الأولى إعادة توحيد تلفزيون لبنان، الذي انقسم على نفسه انسجاما مع الإنقسام الحكومي الذي شهده البلد.

 في الخامس عشر من تشرين الاول بدأت الإجراءات العملية لتوحيد التلفزيون الرسمي . والحق يقال إن ألبير منصور كان على مستوى عال من المسؤولية والحزم في الآن نفسه حيث تم توحيد التلفزيون بسرعة فائقة .ولن ينسى موظفو تلفزيون لبنان الإنجازات التي حققها لهم ،خاصة في مجال الهيكلية والتنظيم وتصحيح الرواتب التي كانت قد تآكلت بفعل التضخم الذي أصاب الليرة اللبنانية.

خصص الوزير منصور وقتا كبيرا لتلفزيون لبنان بحيث كان يداوم يوميا في مبنى تلة الخياط،ودفع مجلس الادارة والحكومة الى اتخاذ خطوات جبارة اعادت البريق الى التلفزيون .كان القرار الأول توحيد نشرات الأخبار،وإلحاق فريق الأخبار الذي كان في الحازمية و”الإيفوار” بمبنى تلة الخياط.تم تعيين الزميل العريق جان خوري مشرفا على الأخبار والزميل الصحافي طانيوس دعيبس مديرا للأخبار.أنجزت هيكلية جديدة بسكرتاريا تحرير موسعة كنت أحد عناصرها .

حرص البير منصور على الاشراف يوميا على نشرات الأخبار في التلفزيون.كان يحضر عصرا ويمضي المساء في مكتب مدير الأخبارحتى انتهاء النشرة.من البداية أصدر لنا توجيهات صارمة مفادها: “هذا التلفزيون ملك الشعب اللبناني وليس ملك الحكام. نشرة الأخبار تبدأ بالحدث أياً كان الحدث. أخرجوا من صيغة “استقبل وودع” الى صيغة الخبر .لا أريد ان تظهر صورتي على الشاشة إلا في قرارات مجلس الوزراء .بالنسبة لرجال الدين لا أريد ان اراهم على الشاشة باستثناء الرؤساء الروحيين. فتشوا عن كل ثغرة وحفرة في الشارع والقوا الضوء عليها كي يتحرك المسؤولون من اجل إصلاحها. اهتموا بشؤون الناس وقضاياهم”… 

 

الهراوي ومنصور

 

لم يكن من السهل طبعا التزام الروحية الجديدة التي بثها ألبير منصور في التلفزيون، بعد زمن طويل اقتصرت خلاله أخبار تلفزيون لبنان على التشريفات الرئاسية والحكومية ،فبدأت الشكوى من هذا “الوزير الثوري”الذي قلب موازين الأخبار، وعكست له الكثير من المشاكل التي حرمته لاحقا من الوزارة والنيابة في كل عهد الياس الهراوي.

ذات يوم كان ألبير منصور كالعادة جالسا في مكتب مدير الأخبار،وكنت أجلس قبالته نتحادث وحدنا في بعض الشؤون، عندما رن جرس الهاتف وقيل له ان فخامة الرئيس الهراوي على الخط. من جانبي كنت أسمع الوزير منصور فقط في الحوار الهاتفي.

منصور: آلو… أهلا فخامة الرئيس..

الهراوي:…………

منصور: لا.. لا فخامة الرئيس أرجوك ما بقدر..

الهراوي:……………..

منصور: أرجوك فخامة الرئيس .. ارجوك ما بقدر أضرب سياق نشرة الأخبار..

الهراوي:………………….

منصور: فخامة الرئيس قلتلك ما بقدر .. يعطيك العافية ( وأقفل خط الهاتف).

نظرت إليه بدهشة سائلا: شو القصة؟

قال: عجبك؟..خبر الست منى الهراوي(زوجة الرئيس والسيدة الأولى) الذي قلت لكم لا تنشروه، يريد فخامته بثه في نشرة الأخبار.

قلت له باستغراب:كنا مرّرناه في الأخبار السريعة في آخر النشرة ،وتفاديت مشكلا مع رئيس الجمهورية.

أجاب بحدة: لا.. لا ..نشرة الأخبار يعني نشرة أخبار ،وليست تشريفات لزوجات الرؤساء.

ساد الصمت للحظات ثم التفت البير منصور إليّ وقال:يمكن معك حق.. كنا مرّرنا الخبر في آخر النشرة..ليش انا عنيد هالقد؟

اجبت ضاحكا: يقولون إن مياه رأس بعلبك تؤثر بكم(رأس بعلبك هي بلدة الوزير منصور في البقاع الشمالي).

رد منصور بحدة: طز فيك يا واصف ..عم تنكّت عليّ؟

ضحكت من هذا الموقف وهربت من المكتب قبل ان ينفجر غضبه أكثر.

الحسيني يروي..

انتهى الموضوع عند هذا الحد ومضت الأيام وتوضح لي ما لم يكن في الحسبان.فقد كنت بعد سنوات في زيارة للرئيس حسين الحسيني في منزله برفقة الزميل أنطوان سلامة، حيث عرّجنا في الحديث على تلفزيون لبنان والرئيس الهراوي والوزير البير منصور، فقال الحسيني إسمعوا هذه الرواية:

“كنا في اجتماع للمجلس الاعلى اللبناني السوري في دمشق على أبواب العام 1991 برئاسة الرئيسين حافظ الأسد والياس الهراوي ،وفي حضوري كرئيس لمجلس النواب والرئيس عمر كرامي كرئيس للحكومة.انتهى الاجتماع بعد ساعات فبادر الرئيس الأسد الى القول :”يبدو اننا أنهينا جدول الأعمال ،فهل من ملاحظات قبل ان نختم الاجتماع”؟..

 وهنا انبرى الرئيس الهراوي الى القول بغضب :”نعم سيادة الرئيس، هناك شيء أريد ان أقوله.

رد الرئيس الأسد:تفضل يا ابو جورج..

قال الهراوي:هيدا ألبير منصور وزير الإعلام يمنع بث أخباري في تلفزيون لبنان الرسمي…

تابع الحسيني:استغرب الاسد هذا الأمر والتفت إلي قائلا” هذا أمر غريب ولا يُفترض ان يحصل ،اذ كيف تُمنع أخبار رئيس الجمهورية من التلفزيون الرسمي”؟

ثم وجه الرئيس الأسد كلامه إليّ قائلا:سأضع هذا الأمر في عهدتك يا أبو علي(باعتبار ان ألبير منصور صديقي).

قلت موجها كلامي للرئيس الهراوي:بسيطة فخامة الرئيس، هذا موضوع بسيط نعالجه في لبنان، فلا نشغل سيادة الرئيس به.

ضرب الهراوي يده على الطاولة وقال بحدة: لا..يجب ان نعالجه هنا.

وهنا كرر الرئيس الأسد استنكاره لهذا الأمر وتمنى علي معالجة هذا الموضوع بسرعة ،والتفت الى الرئيس الهراوي قائلا: لن يحصل الا ما تريد يا أبو جورج!

يضيف الرئيس الحسيني :وانا عائد بالسيارة الى بيروت أخذت أقلّب في هذا الموضوع، ولماذا طرحه الهراوي بهذا الشكل ،مع علمي المسبق انه غير صحيح ،لأن أخبار رئيس الجمهورية لا تغيب عن تلفزيون لبنان يوميا.وعليه قررت معالجة هذا الموضوع فورا، فعرجت على الرئيس الهراوي في المقر الرئاسي في الرملة البيضاء، وسألته على الفور: ” يا فخامة الرئيس لماذا فتحت هذا الموضوع امام الرئيس الأسد، وهو غير صحيح، فأنا أشاهد اخبارك يوميا على تلفزيون لبنان؟

رد الهراوي: ليست أخباري التي تُمنع، ولكن أخبار الست منى(زوجته). منذ ايام اتصلت بالوزير منصور شخصيا وطلبت منه نشر خبر لزوجتي فرفض وأقفل الخط في وجهي.

عندها طيبت خاطره وتعهدت له بمعالجة الموقف.

ما كاد الرئيس الحسيني ينهي روايته حتى ضربتُ كفاً بكف، وانقلبت على ظهري من الضحك وبشكل ملفت ،فبادرني الرئيس الحسيني بالقول:الظاهر أنك غير مصدق أو مستغرب لما حصل.

قلت :أنا مصدّق مليون بالمئة ،ولست مستغربا،لأنني كنت شاهداعلى هذه الحادثة يومها وسمعت اتصال الرئيس بالوزير،ولمته يومها على هذا التصرف.

سألني الحسيني بدهشة : وهل فعلها البير منصور؟

قلت: نعم فعلها يا دولة الرئيس.

قال: الله يسامحه.

وضحك وضحكنا…

ومنذ ذلك الحين وضع الياس الهراوي “فيتو” على البير منصور في اي وزارة ،وفقد منصبه النيابي. ويقال إن السوريين سايروا الياس الهراوي في هذا المجال،ولم يعد البير منصور الى الوزارة إلا في حكومة الرئيس عمر كرامي عام 2003 ،وفي عهد الرئيس أميل لحود.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى