ثقافة

الأخلاق ما بين المثاليّة والماديّة(عدنان عويّد)

د. عدنان عويّد* – الحوارنيوز خاص

في المفهوم:

الأخلاق في سياقها العام، منظومة من القيم الايجابيّة والسلبيّة معاً، وهي تعتبر عند الفرد والمجتمع وسيلة لتحقيق الخير أو الشر في حال ممارستها في الحياة اليوميّة المباشرة داخل الأسرة أو المجتمع أو الدولة، انطلاقاً من أن القوانين التي تحكم عمل هذه المؤسسات، تعتبر بالضرورة ذات توجهات أو مضامين أخلاقيّة. والأخلاق في ممارستها، هي ما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات، مع اعتقادي أن هناك قيماً ذات طابع أخلاقي يمارسها الحيوان أيضاً بشكل غريزي، وفي مقدمتها غريزة الأمومة على سبيل المثال لا الحصر. والأخلاق تتكون في عمومها من أنساق عديدة تتجلى في المعتقدات، أو العادات أو التقاليد أو الأعراف أو في مجمل الأنساق الفنيّة والأدبيّة والسياسيّة والثقافيّة والرياضيّة  ومجموع المنظمات أو الاتحادات الاجتماعية وغيرها، التي تفرض حظورها  داخل حياة الفرد  والمجتمع.

الرؤية الفلسفيّة للأخلاق:

أولاً: الأخلاق من وجهة نظر الفلسفة المثاليّة:

تأخذ الأخلاق في هذا الاتجاه، قيماً معياريّةً ثابتةً ذات بعد دينيّ من جهة أولى، تحددها في الغالب نصوص دينيّة متعالية عن الواقع، لها طابع التقديس، وبالتالي تفرض هذه القيم قداستها على معتنقي هذا الدين أو ذاك، وتطالب بضرورة الامتثال لها والالتزام بها، وأي خروج عنها هو تحدي لعقيدة الدين نفسه، وخروج على تعاليمه، وقد يصل إدخال من يمتنع عن تطبيقها أو الالتزام بها في خانة الزندقة أو الكفر والالحاد. وعلى هذا الأساس جاءت في تاريخ (الأخلاق في الإسلام) مسألة مرتكب الكبيرة (أي من يخالف تعاليم الدين) عند المعتزلة والأشاعرة والماتريديّة والمرجئية. وكذلك جاءت مسألة التحسين والتقبيح في الأفعال المنتمية لخانة الأخلاق ما بين من اعتمد العقل في إقرارها أو الدين، وعلى هذا الأساس جاءت أيضاً مسألة الجرح والتعديل في الفقه والأخذ بالسند أكثر من المتن وفقاً للقيم الأخلاقيّة التي يتمتع بها الراوي إن كان من حيث سلوكياته ودرجة قربها من الأخلاق الإسلاميّة، أو المذهب الديني الذي ينتمي إليه.

  ومن جهة ثانية، تأتي الأخلاق المثاليّة أيضا، مرتبطة بالضمير والوجدان والواجب الفردي والجمعي معاً، وهي أخلاق غالبا ما تحددها كذلك مجموعة من المثاليات كالأعراف والتقاليد والعادات عند مجتمع من المجتمعات في مرحلة تاريخيّة محددة، بعد أن تجردت هذه المثاليات وتحولت إلى ما يشبه القانون المفروض بقوة العقل الجمعي على علاقات الواقع، أي تحولت هذه المثاليات إلى قوانين خلقيّة صالحة لكل زمان ومكان، بعد أن  تعالت على الواقع وراحت تحكمه.

إذن الملفت للنظر وفق هذا النسق أو التوجه الأخلاقي، هو اعتبار الأخلاق عند ممارستها سلباً أو إيجاباً، حالة قيميّة مجردة عن الواقع المعيش ومصالح الناس فيه، وكأنها نابعة من ضمير ووجدان وعقل الإنسان فقط، لدرجة القول بأن من يمارسها إيجابا يقال عنه صاحب عقل وواجب ووجدان، والعكس صحيح. إي يقوم الإنسان بتطبيقها من ذاته بعيداً عن أية مصلحة أو دوافع مصلحيّة وراءها. وبالتالي هي تمارس من خلال ارتباطها  بالواجب والعقل وحريّة الإرادة، إلى حد كبير كما أشرنا قبل قليل.

إن هذه الأنموذج من الأخلاق المثاليّة، اشتغل عليه فلسفياً “كانط” ومن سار على نهج مدرسته في الأخلاق، حيث تأتي الأخلاق عند مدرسته، مستلهمة لنظرية الواجب الأخلاقيّة التي تستند بدورها إلى فكرة أن: “ما من شيء على الإطلاق في هذا العالم يمكن اعتباره جيدا في ذاته دون قيد أو شرط سوى الإرادة الخيّرة”. (1).

     إن الشيء المحوريّ في بناء “كانط” للقانون الأخلاقي هو الواجب القاطع، الذي ينطبق على جميع الناس، بغض النظر عن اهتماماتهم، أو رغباتهم. وتنص صياغة “كانط” لجوهر الإنسانيّة، كحتميّة قاطعة أيضاً، على اعتبار أن جوهر الإنسانيّة يعد غاية في حد ذاته، وينبغي على البشر أن لا يعاملوا الآخرين أبدًا كمجرد وسيلة لتحقيق غاية، ولكن كغايات في حد ذاتها.

لقد فرق “كانط” بين الأخلاقيّة، والقانونيّة معتبراً أن القانونيّة تعنى: تصرف المرء وفقا لما يقتضيه القانون أو التشريع الذي يسنه المجتمع أو تسنه الدولة. أي يتصرف المرء خوفاً من العقاب عند مخالفة القانون الوضعيّ، فممارسة الأخلاق وفق هذا القانون لا تجعل من الفعل أخلاقيًّا بمعني الكلمة.

أما في الأخلاقيّة: فالشخص لا يمارس الأخلاق بسبب الخوف من العقاب، أو من الله، أو احتراما للرأي العام، أو الخوف من تأنيب الضمير… إلخ، وإنما يقوم به بفعل الواجب والعقل الحر الذي يمتلكه الإنسان، حيث يقول: (إن واجبي يقضي ألا أسرق، لذا فأنا لن أسرق احتراما للواجب والعقل)، (2). فهذا وحده الذي يعد فعلا أخلاقيّا. فالمرجع في النهاية هو العقل المجرد والإرادة الحرة. وهو يؤمن بكونيّة القانون الخلقي لأنه صوري، وغير ناشئ عن أي نزعة تجريبيّة، فهو صالح في كل زمان ومكان.

  إن الحق عند “كانط” هو، أن الواجب لا يستند إلى العاطفة أو الوجدان في حالة تشخصهما كانعكاس قيمي للواقع المعيش، بل في حالة تجردهما كالعقل تماماً، كما أنه – أي الحق – لا يقوم على أية تجربة إنسانيّة، خارجية كانت أو باطنية، بل هو يقوم في الأساس على احترام القانون الصوري الذي حدده هو عندما اعتبر الواجب بشكل غير مباشر (قانوناً) في صيغته المأتى عليها أعلاه، ولهذا يُعَرّف “كانط الواجب” بقوله: (إنه ضرورة أداء الفعل احتراما للقانون). (3). وهذا الاحترام ينشأ من العقل نفسه تلقائيا، أي بتعبير آخر، إن المقصود بالقانون هو القانون الخلقي الذي يقره العقل والواجب والإرادة الحرة، وليس المجتمع أو الدولة أو الدين، أو أية جهة وصائية أخرى.

من هنا نجد كيف تتحول الأخلاق في الاتجاه المثالي إلى قيم معياريّة لها مرجعياتها المقدسة (الدين أو العقل المجرد الذي يحكم الضمير والواجب بالضرورة)، وهنا يذوب الفرق أو الخلاف بين الإله وبين العقل، أي فلا فرق هنا بين الأخلاق المقدسة التي يقرها الدين، أو أخلاق الواجب والضمير التي يقرها العقل المجرد، وكلا المرجعين هما وفق هذا التصور خارج التاريخ الملموس أو المعيش.

الأخلاق من وجهة الفلسفة الماديّة:

تنظر النظريّة الماديّة في المعرفة، إلى الأخلاق كنسق من أنساق الوعي البشري، وبالتالي هي شكل من أشكال البناء الفوقي، الذي يشمل الفن والأدب والقانون والفلسفة والدين وكذلك الأخلاق.

فالأخلاق كجزء من البناء الفوقي، هي انعكاس للبناء التحتي، الذي يشكل الوجود الاجتماعي بشقيه الطبيعيّ والاجتماعيّ، وما يقوم في هذا الوجود من (علاقات ماديّة وقيميّة) بين أفراد المجتمع وكتله الاجتماعيّة أثناء إنتاجهم لخيراتهم الماديّة، وبالتالي فإن ما يحققه هذا النشاط من إنتاج للقيم الروحيّة (أنساق البناء الفوقي المعرفيّة) تساهم في ضبط هذه العلاقات الاجتماعيّة وتحقيق الاستقرار في المجتمع ونموه، وتأتي الأخلاق كأحد الأنساق المعرفيّة في تحقيق هذا الضبط السلوكيّ والفكريّ لمكونات المجتمع إفراداً وجماعات. وهذا ما جعل الشاعر العربي يقول:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت     فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

 إن الأخلاق وفق معطيات الفلسفة الماديّة، هي التاريخ الإنسانيّ في صيرورته وسيرورته، أي تاريخ  العلاقات التي بناها الإنسان بجهده وعرق جبينه من خلال علاقته الجدليّة مع  الطبيعة ومع أخيه الإنسان نفسه. أو بتعبير آخر، هي تاريخه المشخص الذي لم تساهم في بنائه أي قوى من خارج تاريخه، أو أية جدليّة مجردة سواء كانت من الفكرة المطلقة كما يقول “هيجل”، أو العقل المجرد كما يقول “كانط “، أو أي فكر فلسفيّ أخر لا يعترف بأن الإنسان سيد مصيره وقدره وأنه وحده صانع تاريخه من خلال تاريخيّة علاقاته مع الطبيعة والمجتمع. وما الأخلاق إلا مواقف قيميّة حددت طبيعتها وأشكالها تلك العلاقات الاجتماعية أثنا عمليّة الإنتاج الخيرات الماديّة تاريخياً. أي هي انعكاس لها، بيد أنها راحت تتقونن لتتحول إلى عرف وعادة وقانون.

إن الأخلاق في التحليل الأخير، هي تمارس عملية خلق أو أبداع في حياة الإنسان الماديّة والروحيّة معاً، هذا الإنسان الذي يسعى لتحقيق علاقات ذات جوهر إنسانيّ مع الطبيعة ومع أخيه الإنسان.. خلق لم يأت في لحظة كَيِفِيِّة أو عفويّة، بل هو خلق جدليّ تولده الحاجة الإنسانيّة من خلال التأثير المتبادل بين حاجات الإنسان الماديّة والروحيّة، لذلك نقول: لم تكن هناك مثلاً حاجة لأخلاق العدالة والمساواة، لو لم تنشأ في حياة الإنسان علاقات استغلاليّة بين المالك والمنتج، وسيطرة المالك على مقدرات حياة المنتج.

إن الإنسان مسؤول مسؤوليّة كليّة عن أمنه واستقراه وعدالته، وهو وحده من يشرّع صيغه الأخلاقيّة بنفسه لتحقيق هذا الأمن والعدالة والاستقرار وفقاً لحاجاته ولا أحد غيره. لذلك على الإنسان في أية مرحلة تاريخيّة معيشة، أن يعي الظروف الموضوعيّة والذاتيّة التاريخيّة التي أُبْدِعَتْ فيها القيم الأخلاقيّة والقانونيّة عبر مسيرة تاريخه الطويل، وكيف راحت هذه القيم وهذه القوانين والتشريعات بما تحمله من قيم أخلاقيّة تتغير منذ تاريخ حمورابي، مروراً بالوصايا العشرة، وَحِكَمْ سليمان وصولاً إلى وثيقة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1948.

*كاتب وباحث من سوريا

الهوامش:

 1-2-3  راجع نظرية كانط في الواجب- ويكبيديا  (الموسوعة الحرة) .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى