ثقافةفي مثل هذا اليوم

في مثل هذا اليوم :عمر كرامي يفاجئ البرلمان باستقالة حكومته على وقع اغتيال رفيق الحريري

الفرزلي يسرد وقائع وخفايا تلك المرحلة

 

الحوار نيوز – خاص

في مثل هذا اليوم ،28 شباط 2005،فاجأ الرئيس الراحل عمر كرامي الساحة اللبنانية بتقديم استقالة حكومته من على منبر البرلمان، وذلك على وقع اغتيال الرئيس رفق الحريري قبل أسبوعين من هذا التاريخ.

 قيل أنه لا رئيس الجمهورية اميل لحود ولا رئيس المجلس النيابي نبيه بري كانا على علم بأن الرئيس كرامي سيقدم على خطوة كهذه في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد على خلفية التداعيات التي أحدثتها جريمة اغتيال الرئيس الحريري، خصوصاً انها جاءت فيما كان يتابع المجلس مناقشة الحكومة في بند وحيد يتعلق بالاغتيالات.


رفض كرامي في حينه تعاطي البعض مع استقالته على انها هروب الى الأمام في وجه العاصفة السياسية التي تعصف بالبلد مع انقضاء اكثر من اسبوعين على اغتيال الحريري، تاركاً لخلفه وللسلطة مجتمعة ان تواجهها مع تبدل قواعد اللعبة السياسية بعد دخول واشنطن بقوة على الملف اللبناني والتي تمثلت بالمواقف التي صدرت عن مساعد نائب وزيرة الخارجية ديفيد ساترفيلد طوال اقامته المديدة في بيروت، فإنه في المقابل عزا الاستقالة الى الكلام الذي قالته النائب بهية الحريري في الجلسة، مؤكداً أنه تحمّل كل شيء من حملات ظالمة الى اتهامات باطلة وشتائم، لكنه ليس على استعداد لأن يحمل وزر دم الشهيد رفيق الحريري.
وكشف كرامي ان دمشق لم تكن على علم بالاستقالة، وان لحود وبري ظنا انه اقتنع بدعوتهما الى التريث وتأجيل اتخاذ موقف الى ما بعد نيل الحكومة الثقة وهي مضمونة. وقال انه ترك وحيداً في المعركة وان الكل يطلقون عليه النار وان بعض الموالاة لم يوفره في انتقاداته تماماً كما فعلت المعارضة، وكان لا بد من رمي الاستقالة في وجه الجميع ليس من اجل قلب الطاولة فوق رؤوسهم فحسب وانما ليتحملوا مسؤولياتهم.
لكن كرامي بدا بعد يوم على استقالته غير مرتاح لأنه يتخوف من المجهول الذي ينتظر البلد وهو يتذكر الفراغ الدستوري الذي مرت به البلاد يوم استقال شقيقه الشهيد الرئيس رشيد كرامي من رئاسة الحكومة في عهد الرئيس الراحل شارل حلو إثر الصدامات بين الحركة الوطنية والقوى الامنية في نيسان (ابريل) عام 1969 ،عندما تداعت الأولى الى تنظيم تظاهرة بعد العدوان الاسرائيلي على مطار بيروت سار على رأسها آنذاك الشهيد كمال جنبلاط، وقد بقي لبنان من دون حكومة اشهراً عدة.

الفرزلي يروي الخفايا

نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي روى في كتابه “أجمل التاريخ كان غداً”،وقائع وخفايا تلك المرحلة فيقول:

    دخلتُ في حكومة عمر كرامي عام 2005 وهي تترنَّح. المعارضة الداخلية تشتدُّ وتتَّسع، والضغوط الخارجية تتفاقم، وإميل لحُّود في مستهلِّ ولايته الممدَّدة، كان أضعف كثيراً من ذي قبل بسبب من الظروف التي أملت تمديد الولاية، ومعارضة معظم اللبنانيين للعبث الدستوري الذي رافقها. دول الغرب تستعجل تطبيق القرار 1559 لدفع الجيش السوري إلى الانسحاب من لبنان، وتتطلَّع إلى تجريد المقاومة من سلاحها، وسوريا مربكة بنزاعها مع “المجتمع الدولي” حول هذه المسألة (…). الزلزال ظهر الاثنين 14 شباط/فبراير 2005، كنت أهمُّ بمغادرة مكتبي في وزارة الاعلام، لتلبية بعض المواعيد، فدوى انفجار ضخم تردَّدت أصداؤه قريباً مني، أدَّى إلى ارتجاج الزجاج في المبنى. كان انطباعي الأول، قبل أن أعرف أي شيء عن ذلك الانفجار وطبيعته، أنه محاولة مكشوفة للإخلال باستقرار البلاد في مرحلة غليان سياسي، اختلطت فيها الضغوط الدولية، من خلال القرار 1559، بالضغوط الداخلية عبر مناوأة حكومة الرئيس عمر كرامي استعداداً للانتخابات النيابية المقرَّرة في الصيف. عدت إلى مكتبي في الحال. ألغيت جميع مواعيدي لذلك النهار. عكفت على إجراء الاتّصالات والربط بين الإخباريات التي كانت تردني وتفيد بأنَّ انفجاراً وقع في “عين المريسة”، قبالة فندق “سان جورج”، وأنَّ المستهدف هو موكب الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري، كان آخرها استشهاده وبعض رفاقه في الانفجار، فوقع النبأ على البلاد وقع الزلزال. للوهلة الأولى، بدا لي الأمر مستغرباً، لأن الوضع في البلد في يوم 14 شباط/فبراير تحديداً، كان هادئاً بصورة ملفتة، وقد لمست ذلك وأنا متوجِّه في الصباح من منزلي في الحازمية إلى مكتبي في “الصنائع”. وكنت أعلم أن اللجان النيابية المشتركة سوف تلتئم قبل الظهر لمناقشة مشروع قانون الانتخاب الجديد الذي كانت الحكومة قد أحالته على المجلس. لم يخطر لي قطُّ أن رفيق الحريري سوف يحضر اجتماع اللجان في ذلك اليوم. لكنني كنت أعرف موقفه المعلن من القانون. بانتهاء الجلسة غادر مبنى البرلمان، وجلس بعض الوقت في مقهى مجاور في “ساحة النجمة” مع نواب وصحافيين، قبل أن يستقلَّ سيارته ويلوِّح، على جاري عادته، بيده لمودعيه في الباحة، مصطحباً معه النائب باسل فليحان. بعد دقائق معدودة، دوَّى الانفجار الضخم.

 

قرَّرت الحكومة عقد اجتماع لمجلس الوزراء بعد الظهر لمناقشة حادثة اغتيال رفيق الحريري. طرحتُ في الاجتماع مشاركة الوزراء جميعاً في تقديم واجب العزاء، إلاَّ أنَّ كلاً منهم فضَّل الذهاب إلى قريطم بمفرده. اتّخذ مجلس الوزراء بضعة قرارات أوَّلها إعلان الحداد الرسمي ثلاثة أيام، وثانيها إقامة مأتم وطني لتشييع الرئيس السابق للحكومة بتشكيل لجنة خاصة ترأسها عصام فارس وضمَّت أربعة وزراء، وكذلك إحالة جريمة الاغتيال على المجلس العدلي. لكن عائلة الرئيس الشهيد رفضت رعاية الدولة تشييعه، وأصرَّت على وداع شعبي مقروناً برفض آخر هو منع مشاركة أيِّ مسؤول رسمي في المأتم.

 قصدتُ منزل الرئيس المغدور وقدَّمت تعازيَّ. لفتني وجود الرئيس أمين الجميِّل يتقبَّل التعازي مع عائلة الفقيد، وكانت تلك المرة الأولى التي دخل فيها إلى منزل الحريري، فأدركت أنَّ لبنان مقبل على حقبة جديدة خطيرة لا يسهل على أحد مقاومتها. (…)

ودَّع اللبنانيون في 16 شباط/فبراير الرئيس الراحل في مأتم شعبي ضخم من قريطم إلى مسجد محمد الأمين الذي بناه في وسط بيروت كي يوارى فيه. تحت وطأة السخط العائلي والشعبي الجارف على الجريمة البشعة، كان من المتعذّر عليَّ المشاركة في المأتم، فقصدت قريطم للتعزية مرة ثانية غداة الوداع.

حضر الرئيس الفرنسي جاك شيراك المأتم، لكونه صديق العائلة، بعدما مكث ساعات في قريطم إلى جانب أرملة الرئيس الراحل يتقبَّل التعازي معها. تجاوز شيراك واجب التعزية إلى دور المحرِّض عندما راح يجتمع بأقطاب المعارضة الجديدة، ما حملني على الإدلاء بتصريح عنيف ضدَّه عبر شاشة “العربية” السعودية، في 20 شباط/فبراير، اتّهمته فيه بـ”قيادة المعركة مباشرة على الساحة اللبنانية”. (…)

 تصرُّفات الرئيس الفرنسي جاك شيراك في بيروت، ومعرفتي بعمق صداقته مع رفيق الحريري، جعلاني أتساءل ما إذا كان لرئيس الحكومة الراحل دورٌ محتمل في وضع القرار 1559، على الأقل لاستثماره تبعاً لمصالحه السياسية. ولقد كنت على اطّلاع، بعد صدور القرار الدولي، بأنَّ الحريري أخذ على عاتقه أمام السيِّد حسن نصرالله، الأمين العام لـ”حزب الله”، معالجة قرار مجلس الأمن، فاعتقدتُ أنَّ القرار ليس مرشّحاً للتنفيذ الفوري، إنما هو مطروحٌ للتفاوض عليه. لكن يبدو أن هناك جهة، أو جهات دولية، كانت تريد تغيير سياسة شيراك بالتخلُّص من صديقه رفيق الحريري، وهو أمرٌ ما زال يستوجب التحقيق الجدِّي فيه.

 وإن أنسى لا أنسى التصريح الذي أدلى به ريتشارد بيرل، الرئيس السابق لمجلس الدفاع في البنتاغون وأحد رموز المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، إلى جريدة “لو فيغارو” الفرنسية بتاريخ 14 تشرين الأول/أكتوبر من عام 2007، وألمح فيه إلى أن “تغيير سياسة شيراك اللبنانية والعربية اقتضت اغتيال صديقه رفيق الحريري”. وقد نشرت جريدة “السفير” خبرها عن تلك المقابلة تحت عنوان “ريتشارد بيرل: لتغيير سياسة شيراك لزم اغتيال صديقه الحريري”.

لم تنقضِ أيام على مواراة الرئيس رفيق الحريري في مأتم حاشد غير مسبوق، نزل خلاله اللبنانيون بالآلاف في تظاهرة لا مثيل لها في تاريخ لبنان، حتَّى باغتنا تعيين موعد جلسة مناقشة عامة للحكومة، في توقيت بالغ الخطورة ينذر بأسوأ العواقب بينما الناس في غليان، معتصمين في الشارع ولا يخرجون منه.

 اتصل بي رئيس الحكومة عمر كرامي يسألني مستغرباً: “جلسة مناقشة عامة؟ ماذا يعني ذلك؟ لنؤجِّلها. هناك ندب وجثة لا تزال في الشارع”. واستطرد كرامي قائلاً: “سينتقل الندب إلى داخل مجلس النواب، وستحضر وسائل الاعلام وتبثُّ الوقائع. ذلك يعني تحريض الناس على النزول إلى الشارع والتظاهر ضدَّنا. بلا إعلام على الأقل”.

اتّصلت بنبيه برِّي متمنياً عليه تأجيل جلسة المناقشة العامة، فأصرَّ على انعقادها في موعدها. اقترحت عليه إقفال أبوابها من دون وسائل الإعلام، فلم يستجب. لم يكن لديَّ أيَّ تفسير لتصلُّبه هذا.

(…) التأمت الجلسة العامة في 28 شباط/فبراير 2005. استُهلت بكلمة للنائبة بهيَّة الحريري، غادرتُ القاعة العامة بعد الإصغاء اليها وتوجَّهت إلى عنجر فوراً، وفي الطريق مررت قبل ذلك بمفتي البقاع الشيخ خليل الميس الذي طالبني أيضاً بضرورة أن أعمل لحمل الحكومة على الاستقالة تهدئة لخواطر الناس.

 في عنجر قلت لرستم غزالي: “لا يمكن للحكومة أن تستمر. يجب أن تستقيل“. قال: “هل ناقشتَ الأمر مع الرئيس كرامي؟” قلت: “لا… لم أفاتحه بالأمر“. قال: “مع الرئيس برِّي؟” قلت: “لا… لكن على الحكومة أن تستقيل، يجب أن نتكلَّم مع الرئيس الأسد في هذا الأمر“.

من مكتب رستم غزالي، اتّصلت بالرئيس السوري مكرِّراً الموقف نفسه، بعدما شرحت واقع الغليان في الشارع: “لا يسع الحكومة أن تستمر. لن تقدر على أن تكمل”. قال الرئيس الأسد: “انتظر. سأجيبك بعد ساعة أو ساعتين”. اتصل الرئيس بعد قليل قائلاً: “إفعلا”. عدت إلى بيروت في الحال، متوجِّهاً إلى منزل رئيس الحكومة أُطلعه على ما دار في الحديث مع بشار الأسد، فعقَّب قائلاً: “الله يفرجها”.

كان مقرَّراً استكمال جلسة المناقشة العامة قبل الظهر بأخرى مسائية. كتب عمر كرامي استقالته في صفحة واحدة وحملها معه إلى مجلس النواب، من دون أن يُخطر أيَّ أحد من الوزراء أو سواهم بمضمونها وقراره. استهلَّ الجلسة الثانية بطلب الكلام، فصعد إلى المنصة وتلا بياناً ختمه بإعلان استقالة حكومته. لم تقتصر المفاجأة على رئيس المجلس الذي صُعق بها، بل انفجر الشارع في ساحة الشهداء، على بعد مئات الأمتار من ساحة النجمة، ابتهاجاً بسقوط حكومة عمر كرامي. (…)

 اجتمعت قوى 8 آذار في عين التينة، وقرَّرت إعادة ترشيح الرئيس عمر كرامي لتأليف الحكومة الجديدة، وإطلاق يده تحت طائلة أنَّ إخفاقه سيقود البلاد إلى أحداث دموية بالغة الخطورة. تلاقى المجتمعون على أن المصلحة العليا للبلاد تقضي بتأليف الحكومة مهما كان الثمن، لا سيما أن القوى السياسية الحاكمة لمَّا تزل تتمتع بالغالبية النيابية. وافق عمر كرامي بعد تمنُّع، وقد أصغى إلى السيِّد حسن نصرالله، الحاضر في هذا الاجتماع، يقول له: “إذا امتنعت عن تأليفها سيسقط آلاف القتلى في الشارع. عليك نعوِّل لإنقاذ البلاد، وأنت مَن يجب أن ينقذها”.

سلَّم عمر كرامي بهذا الإصرار بعدما اشترط عدم عرقلة جهوده. أجرى رئيس الجمهورية استشارات نيابية ملزمة أدَّت في يومها الثاني، 10 آذار/مارس، إلى إعادة تكليف كرامي بعدما سمَّاه 71 نائباً من مجموع 78 اشتركوا في الاستشارات، بينما قاطعها 45 نائباً في المعارضة. بيد أنَّ الرئيس المكلَّف، بعد جهود بذلها لتشكيل الحكومة في الأسابيع التالية، اصطدم بعقبات تعذَّر عليه تخطِّيها، لأنه أراد حكومة وفاق وطني، فرفضت المعارضة الجديدة التعاون

استقال عمر كرامي، كُلِّف واعتذر… فدخلت البلاد في مأزق سياسي دستوري. راح المبصِّرون والمبرِّجون والعرَّافون يضربون بالرمل لمعرفة هوية الرجل الذي يشكِّل مخرجاً من ذلك المأزق، فاختاروا من السياسيين “أكثرهم من الهيقات طولاً”، لأنَّ “الجذم القصار” لا يملأون العين (…). حصيلته في الاستشارات النيابية الملزمة في 16 نيسان/أبريل، كانت كافية لكنها غير مقنعة. حاز 57 صوتاً من 126 نائباً شاركوا فيها، في مقابل تحفُّظ ثلاثة نواب معارضين، رغم قرار المعارضة المشاركة في الاستشارات وتأييدها له، خلافاً لما كان عليه الأمر مع عمر كرامي. تغيَّب ثمانية ولم يسمِّ سبعة نواب الرئيس المكلف، بينما اختار تسعة النائب عبدالرحيم مراد، و45 نائباً أودعوا الرئيس الاسم ولم يعلنوا عنه(…).

اختيار نجيب ميقاتي كان ثمرة المفاوضات الإيرانية – السعودية من خلال سفيريهما في باريس. هذه كانت الواجهة. فكانا بمثابة “المسحَّراتي” الذي أيقظ الميقاتي من سباته بالضرب على الطبلة، للقيام إلى الإفطار بعد صوم. (…)

 في 29 نيسان/أبريل 2005، بعد يومين فقط على نيل حكومة نجيب ميقاتي الثقة، كنَّا على موعد مع تطور بالغ الأهمية. فقد تمَّ انسحاب الجيش السوري من كل لبنان، وغادرت قوافله الأراضي اللبنانية إلى ما وراء الحدود، منهياً حقبة وجود هنا استمرت 29 عاماً  (1976 – 2005).

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى