رأي

صراع مرير مع النفس..


          

أعيش منذ أسبوعين صراعا مريرا مع النفس ،وأنا أرقب حالة البلاد وأتفكر في مصيرها وأنا على عتبة سن التقاعد ،بعد مسيرة مهنية طويلة وقفت خلالها على كل ما يمكن أن يقف عليه مواطن مغلوب على أمره ،وعلى أسرار كبيرة وصغيرة وفرتها لذاكرتي حياتي المهنية كصحافي إنغمس حينا في لعبة السياسة ،وأحيانا في هموم المجتمع ومعاناته ومشاكله التي تبدو عصية على الحلول.
أسأل نفسي كل يوم ،قبل منتصف الليل وبعده،هل يمكن لواحد مثلي (وأمثالي كثر جدا في هذا البلد) إلا أن يكون منخرطا في هذا الحراك الشعبي بإهدافه النبيلة (أو هذه الانتفاضة أو الثورة  ،سمّوها ما شئتم)،وقد عشت على هذا الحلم طوال خمسين عاما من عمري؟
وهل يمكن لواحد مثلي (وأمثالي كثر جدا) أن يكون خارج هذا الحراك،وقد عاش طفولته ومراهقته وبعض شبابه على هدير خطب وأفكار جمال عبد الناصر وموسى الصدر ؟
وهل يمكن لواحد مثلي ولد في بيئة فلاحية متواضعة وخبِر معنى الحاجة ،أن يجهل أو يتجاهل أوجاع الناس الذين تحولت ساحات الانتفاضة الى "صندوق شكاوى" للمظالم التي يعيشونها يوميا، في وطن يفترض أن يؤمّن لهم أدنى متطلبات الحياة الكريمة؟
أنا فلان الفلاني الذي اعتنق مهنة المتاعب وخبِر عن قرب ألاعيب السياسة وفنونها ،وسافر مع الريح الى جهات الدنيا الأربع،واطلع فيها على أحوال البلاد والعباد ،حضارة وتخلفا، وحلم بوطن نظيف لا يفرق بين ست وجارية ،هل يجوز له أن يكون متخلفا عن الركب لبناء مثل هذا الوطن؟
أنا فلان الفلاني الذي حرص طوال حياته على أن يجتنب المال الحرام (الله يشهد) ،هل يجوز له أن يتخلف عن محاربة الفساد ،ويسكت عن الفاسدين وسالبي المال العام ،وقد باتت سيماهم في وجوههم من أثر السجود على خزائن السلب والنهب المنظم؟
أنا فلان الفلاني الذي امتهن الصحافة وكتب مئات المقالات في  ضرورة التغيير ونبذ الطائفية السياسية، داعيا الى مهاجرة النظام الطائفي نحو نظام وطني مبني على العدالة والمساواة ،لا فضل فيه لعربي على عجمي الا بالتقوى ،ولا ميزة فيه لطائفة على أخرى الا بمقدار ما تقدمه للوطن من أفضال،هل يعقل إلا أن أكون في طليعة المنادين لمثل هذا الوطن؟
أنا كل هذا الذي أسلفت ..ولكن!
أنا فلان الفلاني الذي ضرسته الصدمات منذ هزيمة حزيران 1967 ،وشهد رحيل عبد الناصر وغياب الامام الصدر ،فخرجتُ الى الشوارع ،إما باكيا وإما شاكيا ،ثم عشت أحلام حرب أكتوبر عام 1973،ثم تكسرت أحلامي على صدى زيارة السادات للقدس،وتحطمت آمالي على صخرة اتفاقيات كامب ديفيد ،وبعدها على احتلال بلدتي وبلدات كثر مثلي طوال 22 عاما،وعشت التحرير وحرب تموز وحروبا أخرى ،وغيرها وغيرها من انتصارات ونكسات وتجارب ..هل يجوز لي وقد عبرت مرحلة المراهقة العمرية والسياسية ، أن أندفع بحماس الشباب الى الشوارع بلا تفكر أو مراجعة لما كان ولما يمكن أن يكون؟
أنا فلان الفلاني الذي حمل السلاح باكرا وقاتل على الحدود وعلى خطوط التماس ،وذاق طعم الأسر في حيفا قبل كل قوافل الأسرى،وعايش خمسة حروب كبرى شنتها الآلة العسكرية الإسرائيلية على بلده ..وأنا فلان الفلاني الذي شهد ولادة المقاومة وعاش نضالاتها وانتصاراتها ،وتنقل بين إنجازاتها على الحدود الجنوبية والحدود الشرقية ،من إرهاب إسرائيل الى إرهاب التكفير ،وآمن ويؤمن بها وبسلاحها ونقاوة سيدها وطهارة شهدائها ،كيف لي أن يفتنني شعار من طراز"كلن يعني كلن " ،وكيف لي ألا أقرأ مواقف أميركا ورئيسها ووزير خارجيتها في "حب" حزب الله ،ورهانها على الحراك الشعبي البريء بغالبيته من أجل كسر هذه المقاومة؟
أنا فلان الفلاني ،أقسم بالله العظيم أنني لست فاسدا ،فكيف لي أن أتعامى عن بعض رؤوس الفساد ،وهم يركبون موجة الثورة تهربا من المساءلة والمحاسبة ؟      
أنا فلان الفلاني الصحافي الذي حرص طوال حياته المهنية على مدى أكثر من أربعة عقود أن يمارس دوره بمهنية عالية وأخلاق رفيعة،هل يليق لي أن أنجرف مع هذه "الفوضى الإعلامية الخلاقة" التي شهدنا بعض فصولها على الشاشات وفي أقلام بعض الكتاب التي تنضح بأحقاد مزمنة لا علاقة لها بالحراك والانتفاضة والثورة الشعبية وهموم الناس (مرة أخرى سمّوها ما شئتم).
أنا فلان الفلاني الذي لم تسلم منطقة من مناطق لبنان من زياراتي وتنقلاتي ،كيف يمكن أن أرضى بقطع أوصال الوطن عبر إقفال الطرق وحرق الدواليب التي تلوث البيئة،ثم يأتيك من يبرر بأن طبيعة لبنان ملوثة من الأساس؟
أنا فلان الفلاني الذي رباني والدي على أن احترام الغير من احترام الخالق ،فكيف لي أن أوافق على هذا الكيل الفظيع من الشتائم والسباب العلني عبر الشاشات؟

نعم أنا في صراع مرير مع النفس..ومثلي كثر جدا.لكنني لا يمكن أن أكون في مواجهة الحراك الشعبي بأهدافه النبيلة والشريفة ،ولا يمكن أن أكون الا مع الناس ومعاناتهم وأوجاعهم وآلامهم .ولن أكون الا في مواجهة من يحاولون حرف هذا الحراك عن هذه الأهداف الشريفة ،سعيا الى وطن نفخر به ،ويعود اليه أولادنا من الغربة القسرية ليساهموا في بناء المستقبل الواعد الذي يحلمون به.
أعتقد أنني وأمثالي نشكل الغالبية الساحقة من هذا الوطن ،وأرجو ألا أكون مخطئا.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ،وسلام على من اتبع الهدى.

16 تشرين الثاني /نوفمبر 2019

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى