دراسةسياسة

الإرهاصات السياسيّة للفكر السلفي(عدنان عويّد)

د. عدنان عويّد – الحوارنيوز

مع بداية القرن الأول للهجرة، بدأ الصراع بين القدريّة والجبريّة… بين من قال بوجود حريّة الإرادة الإنسانيّة، وبين من قال بعدم وجودها، هذا وقد كان للسياسة في هذا الصراع الدائر بين أهل القدر وأهل الجبر، الدور الكبير في تعميق الخلاف بين أصحاب التيارين، والذي ظل – الدور السياسي – قائماً بالحفاظ عليه حتى هذا التاريخ. فهذا “عبد الله بن عباس” يقول بالمنهج السلفي، وهو من عاصر الرسول ومارس السياسة في عهد “علي بن أبي طالب” حيث كان واليّاً على الكوفة، ثم انقلب على “علي” لمصلحة “معاوية” والبيت الأموي، وهو من روي عنه قوله: (كان يقال عليكم بالاستقامة والأثر وإياكم والتبدع). (1). وهذا الموقف السلبي أيضاً تجاه أهل الرأي، نجده عند ردِّ الخليفة “مروان بن الحكم” على القدريّة من المعتزلة عندما راحوا يقولون له اتقي الله بالعباد، فخاطبهم: (إنكم تأمرونا بتقوى الله وتنسون أنفسكم، والله لا يأمرني أحد بعد اليوم هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه.).(2). وجاء هذا القول بعد أن نبه “مروان” “الحسن البصري” عن القول بالقدر برسالة جاء فيها : ( … لقد بلغ أمير المؤمنين عنك قول في وصف القدر ولم يبلغه مثله عن أحد ممن مضى، ولا نعلم أحد تكلم به ممن أدركنا من الصحابة رضي الله عنهم، كالذي بلغ أمير المؤمنين عنك.).(3). وكذلك في رده على أهل المدينة ممن راح يضع الأحاديث ضد البيت الأموي بعد أن أوقف العمل بالرأي، حيث يقول: (لأن أحق الناس أن يلتزم الأمر الأول، وقد سالت علينا أحاديث من قبل هذا المشرق لا نعرفها ولا نعرف منها إلا قراءة القرآن، فالتزموا ما في مصحفكم الذي جمعكم عليه الإمام المظلوم. (4). أي عثمان بن عفان.
أما مسألة تجذر السلفيّة وتبلورها في بعديها الفكري والسياسي لاحقاً، فكانت مع الخلفاء العباسيين بعد أن ضعفت سلطتهم أمام الأعاجم في إدارة شؤون الخلافة والرعيّة، حيث راح الأعاجم يتدخلون في تعيين الخليفة أو عزله، بل تحول الخلفاء إلى ببغاوات في قفص الخلافة كما يقول أحد شعراء عصر ضعف الدولة العباسيّة في عهد حكم الأتراك: (خليفة في قفص… بين وصيف وبغا. يقول ما قالوا له… كما يقول الببغا.)، الأمر الذي فسح في المجال واسعاً لتأثيرهم على قرارات الخلافة السياسيّة والإداريّة إضافة لظلمهم الرعيّة، وهذا يتطلب بالضرورة شرعنة سلطاتهم وما يقومون به، فوجدوا في الفكر السلفي الوثوقي ما يبرر لهم كل ذلك، وفي مقدمة هذه الشرعنة جاء إصدار الفتاوى والكتب التي تبرر وصول الخليفة إلى السلطة حتى ولو كان أمر الموافقة يقوم على موافقة شخص واحد من الرعيّة، أو الوصول إلى هذه الخلافة بالغلبة. كما هو الحال عند “بدر الدين بن جماعة” في كتابة (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام). أو كتاب 0الأحكام السلطانية) “للماوردي”، أو (الأحكام السلطانية) “لأبي يعلى الفراء” وغيرها من الكتب التي وضعت خدمة للسلطان قبل الرعيّة.
ومع توسع الفتوحات الإسلاميّة، ودخول شعوب كثيرة تحت مظلة الإسلام والخلافة الإسلاميّة معاً، فقد أعطي لهذه الشعوب المجال واسعاً أيضاً، لتُدخل الكثير من مفردات ثقافتها وعقائدها في صلب العقيدة الإسلاميّة والتشريع الإسلامي وخاصة ديانات الفرس القديمة مثل المانويّة والزردشتيّة، وتعاليم الروانديّة والمقنعيّة وغيرها الكثير، وذلك خدمة لمصالح سياسيّة وقوى اجتماعيّة محددة وجدت في الدين الوسيلة الأكثر فاعليّة لتحقيق تلك المصالح، وخاصة مصالح القوى الشعوبيّة، الأمر الذي ساهم في كثرة الفرق والطوائف الإسلاميّة بفعل هذين العاملين، السياسة والفتوحات، وهذا ما جعل الخليفة العباسي “المهدي” في عصر القوة العباسي كما يقول السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) يوجد ديوانا خاصاً لمحاربة كل من راح يدس على الدين الإسلامي ويحاول إدخال مفاهيم دينيّة غير إسلاميّة على العقيدة الإسلاميّة، وقد عين عليه رجل سمي (صاحب الزنادقة)، مهمته التأكد من صحة عقيدة المسلم، ومن تُثبت عليه التهمة بالزندقة كان يقتل. والزندقة هنا راحت تتوسع في دلالاتها ليدخل في مضمارها ليس الذين حاولوا إدخال تعاليم دينيّة كالزردشتية والمانويّة وغيرهما فحسب، بل أدخل في عالمها من أعطى للعقل والحريّة الإنسانيّة اعتبارهما في تفسير النص الديني وتأويله خدمة لمصالح الناس أو تحريضهم ضد الخلفاء وكشف فسادهم.
مع سيطرة الأتراك على الخلافة في زمن المعتصم، بدأ الفكر السلفي يُفرض بقوة على مسلمي الخلافة، وخاصة في زمن الخليفة ” الواثق” الذي وصل إلى الخلافة بإرادة الأتراك، وهو الذي وضع تاج الخلافة على رأس القائد التركي ” إشناس” وسلمه مقاليد إدارة شؤون الخلافة. وعند استلام “المتوكل” طُلب منه أن يصدر فرماناً عام”232هـ” يأمر الناس فيه بالتسليم والتقليد بالفكر السلفي الجبري، ورفض العقل أو القول به، بعد أن ساد استخدامه زمن المأمون والمعتصم، وأمر الشيوخ والمحدثين، بالحديث في السنة والجماعة، واعتماد النقل على حساب العقل للوقوف بوجه القدريّة والتصدي لهم. وهنا راحت الأمور تأخذ منحىً معاديّاً للعقل وحريّة الإرادة الإنسانيّة، وخاصة في عهد الخلفاء العباسيين اللاحقين للمتوكل، كما جرى في عهد الخليفة “المعتضد” عام “278هـ”،عندما منع بيع كتب الفلسفة والمنطق.(5).
مع فتح مظلة هذه الأجواء المشحونة بالفساد والظلم والقهر والثورات ضد الخلافة وتغييب العقل، أخذت السلفيّة الفكريّة طابعاً رسميّاً محميّاً من الدولة/الخلافة، وراحت تُشكل لمن يقول بالرأي/العقل، محاكم تفتيش شبيهة بمحاكم الخليفة “المهدي”، ولكنها هنا تعمل لمصلحة الأتراك وتبرير سلطاتهم كأمر مقدر من الله، دون أن ننكر بأن هناك نيات حسنة لدى بعض الفقهاء ورجال الدين ممن اتخذ الموقف السلفي الفكري هذا سلاحاً ضد الفوضى الفكريّة والفقهيّة التي بدأت تسيء للدين وتعمل على تشويهه من قبل الحركات الشعوبيّة، مع وصول العباسيين إلى الخلافة وتدخل الأعاجم في إدارة شؤونها، وهناك أيضاً من ساهم في تبني الفكر السلفي وتعميقه في الساحة الفقهيّة، خدمة لمصالح أنانيّة ضيقة سياسيّة أو ماديّة أو معنويّة، وهم الأكثريّة.
على العموم إن العقليّة السلفيّة هي عقليّة وثوقيّة، تعمل على تضخيم الانفعال والعاطفة والشعور والوجدان والإحساس لدى المسلم، على حساب العقل والمنطق والتمييز والإدراك، وهي عقليّة تقطع كل صلة بالعالم المعيوش، وتكفر كل ما هو حديث وإبداعي في حياة الناس بكل مستوياتها، طالما هي بعيدة عن حياة السلف، وبالتالي يجب محاربة هذه الحياة المعاصرة والنضال من أجل تجسيد أو تطبيق قيم ومثل الفكر السلفي ومنهجه. ومن هذا المنطلق أو المنظور الماضوي، اعتمدت الفقه وسيلة أساسيّة لخدمة أهدافها. أي (علم الفروع). أي المنظومة الفقهيّة لأهل الحديث، وهي منظومة معاديّة أو مناهضة للعقل وعلم الكلام، وقد كفرت وزندقت كلَ من اشتغل على المنظومة العقليّة وحريّة الإرادة، لذلك فإن من أولى أهدافها، تحريض المشاعر والعواطف وإلهابها، وجعلها بديلاً عن العقل في تقويم حياة الفرد والمجتمع، أو تقبيح وتحسين أفعالهم وتحديد ما عليهم أن يفعلوه وما عليهم أن يتركوه، مع اعتبار الماضي وحده هو المنطلق الوجودي والمعرفي لكل ما يعيشه الإنسان، وما سيأتي لاحقاً في حياته.
*كاتب وباحث من سورية
d.owaid333d@gmail.com
المراجع
1 – عبد الجواد ياسين- العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ- المركز الثقافي العربي- ط1- 1998- ص 157. \
2- عبد الجواد ياسين- العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ- المركز الثقافي العربي- ط1- 1998- ص 157.
3- المرجع نفسه- ص157.
4 – المرجع نفسه – ص 158
5- د0 حسن إبراهيم حسن- تاريخ الإسلام –ج1- دارالجيل – بيروت ط3- 1991- ص 23.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى