سياسةمحليات لبنانية

الانتفاضة والاستغلال السياسي


عندما قدّم الرئيس الحريري ورقة الإصلاحات وأكّد عليها الرئيس عون، لم يقبلها المتظاهرون لأن أهم مطالبهم كانت إسقاط الحكومة أو النظام أو السلطة بأكملها. وسقطت الحكومة بعد أيام قليلة معلناً رئيسها تضامنه مع الانتفاضة، لينضم أنصاره إلى حركة الشارع تواجداً وهتافات وقطعاً للطرقات. ولم يعجب ذلك الكثيرون الذين أملوا من تلك الورقة منفذاً معقولاً، وإن لم يكن كافياً، لبدء تحقيق المطالب بالتدرّج، والتي تتلخص أولوياتها بإصلاح الأوضاع المعيشية التي لا يمكن تأجيلها، ليكون العمل بعدها على القضايا السياسية العالقة المتعلقة بنظام الحكم، في خطوطه العريضة وتفاصيله الصغيرة، وما يعتريه من ممارسات ظالمة فاسدة بدأت منذ عقود طويلة واشتدّ وقعها في بداية التسعينات. ثم بدأنا نشهد تغيراً واضحاً في ملامح الانتفاضة في تحركاتها وشعاراتها التي كثيراً ما تبتعد عن الهموم التي خرج بسببها الناس إلى الشارع وبارك خروجهم الأغلبية الساحقة من اللبنانيين. فليس بريئاً اعتراف حزب القوات اللبنانية بالوقوف ميداناً مع المتظاهرين ومشاركتهم في شلل البلد وإلحاق الأذى الكامل بالمواطنين وخصوصاً الفقراء منهم وصغار الكسبة. والأمر عينه في مواقف جنبلاط والجميل ومن لفّ لفهما.
وليس بريئاً أن تتفق كلمة المتظاهرين على الرئيس المستقيل سعد الحريري رئيساً للحكومة الجديدة، وهو ليس طارئاً على السياسة اللبنانية وسلطتها الفاسدة، بل قد يشكّل رمزاً للمرحلة الحريرية التي فعلت في هذا البلد ما فعلت منذ ثلاثين سنة. وكلنا يعلم عقدة تأليف الحكومة في لبنان والأوقات الضائعة في الاستشارات النيابية وتسمية الرئيس واختيار الوزراء والاتفاق على البيان الوزاري، فهل نملك ترف الوقت في هذه المرحلة الخطيرة التي نعيشها؟
وليس بريئاً أن تتفق الجموع بإصرار وعناد على حكومة تكنوقراط حيادية لا تمثّل أحداً من الأحزاب، سوى رئيسها وهو من غير الاختصاصيين، بحجة أن الانتفاضة تريد التخلص من السلطة ورموزها جميعهم، ويدعمهم في هذا التوجّه أحزاب الرابع عشر من أذار.
وليس بريئاً أن يعطل المتظاهرون جلستَيْ مجلس النواب من خلال قطع الطرقات على النواب، ويمتنع نواب الأحزاب المذكورة عن المشاركة، مع أن بعض مطالب المتظاهرين حاضرة في جلسات المجلس ولا ضير من إعطاء النواب، وإن كان أكثرهم فاسدين، فرصة ولو أخيرة، لتحسين الأحوال القائمة.
إن الأوضاع الاقتصادية تسير من سيئ إلى أسوأ، وإن استطاع المرء صبراً على كثير من ممارسات السلطة الفاسدة لسنوات طوال، فإنه لن يستطيع الصبر على غلاء لقمة عيشه وعائلته، ولا على أزمات الطبابة والأدوية والمدارس والسكن والأمن والأمان. إن الأحزاب التي تدير الحراك من حيث لا يشعر الطيبون والفقراء من هذا الشعب، يسعون لنيل مكاسب سياسية سوف تدمّر بلدنا وتلحق الكارثة بالمواطنين الطامحين لحياة كريمة. لقد خبرنا زعامات تلك الأحزاب وتاريخ كل منهم، حيث الغاية الميكافيلية تبرر كل وسيلة مهما بلغت قذارتها، وأهدافهم لا توقفها نزف الدماء والقتل والحروب، خصوصاً عندما نعلم أن لهم أجندات تتصل بالخارج الذي يتربص بنا الدوائر.
آن للعقلاء الشرفاء من هذه الانتفاضة أو الثورة أو الحراك، ولا مشاحة في الاصطلاح، أن يعلموا أن المتظاهرين ليسوا الشعب كله، بل إنهم يمثلوا الأقلية بعد أن ترك ساحاتهم الكثير ممن رفضوا الممارسات البشعة في قطع الطرقات وإذلال الناس وتعطيل البلد وارتفاع أسعار المواد الغذائية وغيرها والتعدي على أفراد الجيش الذي صبر طويلاً على تجاوزاتهم. لا يحقّ لفئة من فئات الشعب فرض نوعية الحكومة وطبيعتها واختيار رئيسها والدعوة لانتخابات نيابية مبكرة الخ، إذ أن مثل هذه القضايا لا تعالج في الشارع وهتافاته وصيحاته، بل هناك أطر عقلانية يمكن البحث من خلالها في إصلاح البلد من الفساد الجاثم على صدره منذ عقود، وإلا فمن يضمن ألا تقوم الفئة الأخرى المخالفة في توجهها من هنا أو هناك باحتلال الشارع نفسه وقطع الطرقات نفسها وإذلال الناس أنفسهم عندما لا يرضيها أمر من الأمور السياسية الكثيرة والمتشعبة في بلد يكثر فيها المختلفون والمنتمون وأصحاب النوازع والقضايا الخاصة والعامة و… الوطن في خطر أفلا نكون نحذرين كيلا يعيد تاريخ الحرب الأهلية نفسه؟
        

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى