ثقافة

هل هناك قراءات محايدة للنص الديني؟

 

د. عدنان عويّد* – الحوارنيوز خاص

الحياد في المواقف الفكريّة، هو أن تتخذ الحدّ الوسط في الرأي. أي عدَمُ الميل إِلى أي طرفٍ من أَطرافِ الخُصومة، أو الاختلاف في الرأي تجاه مسألة من المسائل يتم تداولها أو النقاش حولها. وهذا ما يمكن أن نسميه أيضاً بالحياد الايجابي. وبالرغم من معرفتنا بأن مسألة اتخاذ المواقف المحايدة من قبل الذين يشتغلون على كشف وتأكيد الحقائق، غالباً ما يتعرضون لموانع كثيرة تحول بينهم وبين ادعائهم الحياد، كدرجة وعيهم، واهتماماتهم، ومداركهم، ومصالحهم الماديّة والمعنويّة، ومرجعياتهم الطبقيّة والفكريّة والاجتماعيّة والأيديولوجيّة والحزبيّة.. وغير ذلك الكثير.

     من هذا المنطلق (الحياديّ) تأتي مسألة توظيف النص الديني في حواراتنا وكتاباتنا عن قضايا تتعلق بدور الدين فيها، ومدى شرعيتها، أو توافقها مع النص.

 إن تفسير أو تأويل الآية القرآنيّة التالية: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ). النحل. (89). جعل بعض القوى السياسيّة الإسلاميّة الداعية إلى الحاكميّة، تعتبر أن النص الديني (القرآن والحديث) هما المرجع الأساس للحاكميّة في هذه الحياة، وبالتالي كل رؤى أخرى وضعيّة يطرحها الناس لحل مشاكلهم خارج هذا النص المقدس هي بدعة وضلالة حتى ولو أجمع عليها الناس في برلماناتهم أو مجالسهم النيابيّة.

يقول ابن مسعود في تفسيره لهذه الآية: (إن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي ، وحُكْمَ كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم ومعادهم). (1).

    إذن من هذا المنطلق التفسيري أو التأويلي لهذه الآية، على اعتبار أن الكتاب أو القرآن يحتوي على كل شيء يتعلق بحياة الإنسان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، كما بين ابن مسعود، وغيره من مفسري الماضي، أو مفسري الحركات الإسلامية السياسية والجهادية منها في عصرنا الحاضر، يُحيلنا إلى مواقف بعيدة عن الحياد بالضرورة، وخاصة في قدرتنا على استخدام عقولنا التي وهبنا الله إياها في إدارة شؤون دنيانا وتعمير هذه الأرض، ونحن الأدري بشؤون دنيانا كما يقول الرسول.

 ما أريد قوله هنا هو: إن  الآية السابعة من آل عمران: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ). (آل عمران-7). تبين لنا حالات الاختلاف في النظر – أي في استخدام العقل – إلى نصوص القرآن، وهذا ما أشار إلية ابن كثير في تفسيره على سبيل المثال لا الحصر بقوله: (خَبًرً تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي : بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس ، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فهناك من رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه ، وحَكّمَ محكمه على متشابهه عنده ، فقد اهتدى . ومن عكس انعكس… وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه). (2).

     إذن، هناك اختلاف في النظر (العقل)، إلى المحكم والمتشابه من الآيات القرآنية. فغياب دلالات هذه الآية المتشابهة أو تلك تجعل الكثير ممن اشتغل على مجال الفقه أو علم الكلام، أو العقائد أو غيرها من علوم الدين، يقع في متاهات التفسير والتأويل والحكم بالتالي على الظواهر أو الأحداث، وخاصة من حاول توظيف الدين لقضايا نفعيّة سياسيّة كانت أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو فرديّة، أو انطلاقاً من قناعة أكيدة عندهم بضرورة تطبيق الدين وحاكميته لكونه برأيهم حكم الله المقدس الذي لا يقبل الالغاء أو المراجعة أو التعديل، وقد حقق كما يعتقدون في مراحل تاريخية – وخاصة العهد الراشدي – العدل والمساواة بين الناس. بيد أن هذه الرؤية الوثوقيّة أدت إلى خلافات كثيرة وجريان دم بين المسلمين، وكان لها الدور الكبير أيضاً في ظهور المدارس الفقهيّة والكلاميّة والمذهبيّة وخاصة الفرقة الناجية.

إن غياب التفريق بين المحكم والمتشابه في النص القرآني عند المتنطعين أو محاربي استخدام العقل في تفسير النص من الفقهاء وعلماء الكلام والباحثين في التراث الإسلامي، سابقاً ولا حقاً، جعلهم برأيي يشتغلون بطريقة براغماتية ووثوقية في بحوثهم ودراساتهم وتشريعاتهم واتخاذ أحكامهم من خلال اتباع المنهج التالي في البحث والتقصي عن هذه الأحكام وهو الذي حدده الشافعي: فهم لديهم الفكرة أو القضية التي يريدون تسويقها أو فرض حكم شرعيّ عليها، أو شرعنتها، فيذهبون إلى القرآن للبحث عن دليل لها، وإن لم يجدوا يذهبون إلى الحديث، وإن لم يجدوا يذهبون إلى أقول الأئمة والفقهاء .. الخ. وكل ذلك يتم دون التبصر في المحكم والمتشابه من الآيات التي يعتمدون توظيفها للحكم أو شرعنة ما يريدونه، وغالباً لا ينظرون أيضا في خصوص السبب بالنسبة لنزول الآية التي يتكؤون في حكمهم عليها، ويعتمدون على عموم اللفظ, كما نجد أيضاً عند بعض الفقهاء رؤى تجافي الحقيقة خدمة لتلك المصالح، فإن وجد هناك نص ديني كدليل على ما يريدون الحكم عليه يقولون إن هذا الدليل قد تم نسخه، وهذا ما تم في الحقيقة، حيث قالوا بأن الآية الخامسة من سورة التوبة قد نسخت خمس مائة آية من السور المكيّة.

من خلال هذه المعطيات التي جئنا عليها هنا يأتي الأخذ بآية: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ). النحل. (89). عند المتنطعين الذين يرفضون الرأي الآخر المختلف، سلاحاً في فرض قناعاتهم على الاخرين وتديين المواقف السياسية خدمة للسلطان. ونأخذ مثالاً على ذلك، قضية ذبح “الجهم بن صفوان” والتضحية به يوم العيد من قبل خالد بن عبد الله القسري، وكان يومها والياً على العراق في حرم الجامع بأمر من الخليفة هشام بن عبد الملك، الذي اتهمه بالزندقة والكفر كونه قال بخلق القرآن، بينما الدافع الحقيقي هو وقوف الجعد إلى صف المحرومين من الموالي، الأمر الذي جعل القوى السلفيّة تبرر زوراً هذا الذبح كموقف عقيدي/ ديني،(3). ونحن نعرف أن العقيدة تقر بضحية العيد  على الأنعام وليس على البشر.

إن هذا الموقف المخالف للنص الديني راح يجد قبوله وشرعنته لاحقاً عند ابن تيميّة وتلميذه ابن قيم الجوزيّة ومشايخ الوهابيّة، وكل من برر هذا القتل (الذبح) من مشايخ وفقهاء السلفيّة في الماضي والحاضر، بل وعند كل من سكت عن هذه الجريمة تاريخياً. وهذا الذبح ذاته امتد إلى تاريخنا المعاصر، كما فعلت داعش في مسلخ أبوكمال عندما ذبحت عدداً من المختلفين معها في المسلخ يوم العيد. والأنكى من ذلك تأتي وثوقيتهم المميتة على مجال العلم والاختراعات الحديثة، حيث نجدهم يسارعون إلى القرآن والحديث يبحثون فيهما عن أي شيء يشير إلى دلالات هذا الاختراع عند المؤولين للنصوص كي يقولوا إن هذا الحدث العلمي الجديد موجود في هذه النصوص قبل أن يُكتشف، دون أن يسألوا أنفسهم لماذا لم يكتشفه العرب أو المسلمون قبل اكتشافه من قبل الغرب في عصرنا الحاضر. ولا نستغرب أيضاً عندما نجد من يكفر هذه الاختراعات العلميّة ويكفر من استخدامها كون المسلمين الأوائل لم يستخدموها في عصرهم، وبالتالي هي تدخل في باب الضلالة، متناسين أن الأصل في الأشياء الاباحة، وإن كل حادث لم يرد فيه نص تحريم هو مباح، ويخضع في شرعنته للمقاصد الدينية الخيرة التي يدعوا إليها النص الديني وهي: حفظ الدين بوجهه الصحيح, والنفس، والمال، والنسل، والعقل.

ملاك القول: عند تناولنا لأي قضيّة من قضايا حياتنا ونريد شرعتنها أو إعطاء حكم فيها بنص ديني, علينا:

     1- أن ننظر بالمحكم والمتشابه في الآيات.

     2- وأن نتخذ من مقاصد الدين الخيرة مرجعاً أساسياً في تفسير أو تأويل المتشابه منها، أي رده إلى المحكم من الآيات كما ذكر ابن كثير أولاً وهو مصيب في ذلك.

     3- ثم النظر بعموم الآيات التي تتعلق بهذا الموضوع لمعرفة أسباب نزولها. ثم النظر في العام والخاص منها، أي المجمل والمفردً. وبالتالي نختار الحكم الذي يتفق مع الحدث أو الظاهرة المستجدة.

      4- وأن لا نمارس الناسخ والمنسوخ من الآيات على هوانا، كأن نقول كما قال بعض الفقهاء بأن الآية الخامسة من سورة التوبة نسخت (500) آية من الآيات المكيات التي تدعوا إلى التسامح واحترام الرأي الاخر وعدم التنطع بالدين. أو أن الحديث ينسخ القرآن. (4).

5- وأخيراً أن نأخذ بالجانب العقلي أيضاً في التشريع، أي الآخذ بالاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وتغير الأحكام بتغير الأزمان، وغيرها من القواعد الفرعية في التشريع التي تساهم في فتح باب الاجتهاد ومراعاة خصوصيات الواقع والتطور والتبدل الذي يحدث في الوجودين الاجتماعي والروحي / القيمي للناس.

أمثلة على الآيات المتشابهات:

10- آلآية المعروفة باسم “آية السيف” تقول: “فإذا انسلخ الشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخّلوا سبيلهم أن الله غفور رحيم”. صورة التوبة – (5).

2- (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..). (الكهف. 29).

3- (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ). الحاقة . 17.

4- (ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ). (الشورى:11).

5- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).  (النساء 59).

6- (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلْإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰاسِقُونَ). (المائدة 47).

7- (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوْرَىٰةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَآ أُوْلَٰٓئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ). (المائدة  48).

*كاتب وباحث من سورية.

الهوامش:

1- موقع: (www.alukah.net › sharia ).

تفسير قوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء.

2- موقع:quran.ksu.edu.sa › tafseer › katheer sura3-aya.

(القرآن الكريم – تفسير ابن كثير – سورة آل عمران) – …

3- راجع حول الجهميّة وذبح الجهم بن صفوان : موقع الدرر السنية. بحث بعنوان : المبحث الثاني الجهميّة. وراجع أيضاً كتاب (مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة) للابن قيّم الجوزيّة. الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى