ثقافة

التحليل السوسيولوجي للفن والأدب(عدنان عويّد)

 

د. عدنان عويّد* – الحوارنيوز- خاص

 

     الفن والأدب برأيي هما مجموعة متنوعة من الأنشطة البشريّة الذهنيّة والعمليّة، تتوزع بين إنشاء أعمال بصريّة أو سمعيّة أو حركيّة، للتعبير عن مواقف المؤلف أو الفنان أو الأديب المفاهيميّة والمهاراتيّة الإبداعيّة من الحياة بشكل عام، أو من محيط حياته المعيشة بشكل خاص، والمقصود من كل ذلك أن تكون هذه الأعمال الابداعيّة موضع تقدير لجمالها و قوتها العاطفية والبعد الإنساني فيها ومدى تأثيرها على المتلقي.

     على العموم، يظل الفن  والأدب من الوجهة الواقعيّة، تصويراً للواقع بصور فنيّة وأدبيّة ذات أشكال مختلفة كما بينا أعلاه، مثل الرسم والنحت والسينما، والمسرح والقصة والرواية والشعر…الخ. والفن والأدب لهما رسالة اجتماعيّة سامية، وهذا يناقض نظرية الفن للفن المثاليّة التي تعمل على فصل الفن والأدب عن محيطهما الاجتماعي بشكل عام، والتعامل معهما كنسق معرفيّ أو جماليّ قائم بذاته.

     إن الفن والأدب في سياقهما العام، لا يفرخان بشكل مجرد، أي لا يأتيان من فراغ، بل هما مشخصان ونتاج الواقع المعيش عبر السياق التاريخيّ لحياة الفرد والمجتمع. أو بتعبير آخر هما المرآة التي تعكس الحياة الروحيّة للشعوب في تاريخ سيرورتها وصيروتها، لذلك هما دائماً في حالة تطور وتبدل، كونهما يعبران عن آمال هذه الشعوب وتطلعاتها ومتطلباتها المستمرة والمتجددة. فالعلاقة بين الفن بكل مكوناته ومنه الأدب، والحياة علاقة جدليّة ذات تأثير متبادل. وكما يقول بعض المهتمين بالشأن الفنيّ والأدبيّ، إن العلاقة بين الفن والأدب من جهة، والواقع في سيرورته وصيرورته المستمرتين من جهة ثانية، أشبه بعلاقة الزيت بالنار التي يؤججها المصباح. أو كارتباط النبات بالتربة التي تزود النبات بالغذاء.

     إذن إن الفن استجابة حقيقيّة لمتطلبات حياة الناس التاريخيّة،أي استجابة يمثلها أناس يحبون حياة شعوبهم ويقفون على قمة عصرهم شهوداً، لينصتوا بإمعان إلى حاجات شعوبهم وقضاياهم الاجتماعيّة. وبذلك ينشأ الفن والأدب وكذلك الفلسفة، فجميعهم ينشؤون من الواقع واحتياجاته ومتطلباته، ولكنهم يفترقون في طريقة التعبير، فالفلسفة تعكس الحياة في المفاهيم والمقولات والنظريات، أما الفن والأدب فيعكسانها في الصورة واللون واللحن والتعبير القصصي والروائي والمسرحي.

     إن الفن والأدب بكل مكوناتهما التي جئنا عليها أعلاه، كالحياة يتطوران ويتبدلان باستمرار، وطالما أنه ليس هناك من حدود لتطور الحياة، كذلك لا يوجد هناك حدود لتطور الفن والأدب واكتمالهما. والجمال ليس دوره تمثل موضوعة الفن والأدب مجردين فحسب، وإنما يتناول الجمال القضايا الملحة في حياة الإنسان ويعالجها أيضاً، وعلى أساس ذلك فهو يتمثل قضايا عصره بعمق.

    بتعبير آخر إن الشكل الجماليّ الذي يتمظهر في الفن والأدب بعمومهما، هو أحد جوانب الفن، لكن هذا الشكل يجب أن يكون ذا مضمون. أي يجب أن يعكس العمليات الحياتيّة في تنوعها وغناها، وأن يبث في المجتمع الأفكار العقلانيّة النقديّة التنويريّة، ويدافع عنها.

     إن مدارس الفن والأدب كشكل من أشكاله التي تقول بأن الفن من أجل الفن، لا تعتني بهذه المتطلبات، أي لا يهما الارتباط بالواقع المعيش، لذلك فالفن الواقعي هو من يتصدى لهذه المهمة مرتبطاً أو مشروطاً بحياة الشعوب المعنيّة بكل مستوياتها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، وبالتالي بالحضارة المعنيّة أيضاً بالضرورة، وإن أي فنان أو كاتب أو أديب إنما هو صدىً أو نداءً لعصره. وبالتالي فإن الفنان الواقعي هو الأقرب كثيراً إلى البنيّة الطبقيّة للمجتمع. أي أن نتاجه أو إبداعه يظل مشروطاً بالوضعيّة الطبقيّة التي ينتمي إليها أو يرغب الدفاع عنها. فعلى هذا الأساس نجد أن للفن والأدب الواقعيين روحهما، أو قيمهما الشعبيّة الأصيلة. وشعبيتهما هي التي تحدد المحك الحقيقي لإبداع أي عمل للفنان أو الأديب، بل هي المعيار الأعلى للإبداع، وهنا تنصهر مفاهيم الفن والأدب وشعبيتهما وواقعيتهما في كل واحد.

      نعم.. إن صدق الفن والأدب في شعبيتيهما،وهي تكمن أساساً في تصويرهما لحياة الناس وأفكارهم وآمالهم وطموحاتهم وعقليتهم. ومع ذلك نقول، بل نؤكد هنا بأن الفن والأدب ليسا نسخاً ساذجاً  للظواهر كآلة تصوير فوتوغرافي، بل هو تصوير للحياة بشكل واقعيّ، مشيران إلى كل ما هو أصيل وعرضيّ في هذه الحياة. إن شعبية الفن والأدب تعني، أصالته الوطنيّة والقوميّة والإنسانيّة، ومن الضروري أن تنعكس خصائص ومزايا الإنسانيّة العامة في العمل الفني والأدبي أيضاً. فرسالة الفنان هي السير بالمجتمع نحو الأمام كي يمارس تربية أفراد المجتمع على حب الجمال وقيم المساواة والعدالة والوقوف ضد كل ما هو رجعي ومتخلف.

     إن الفن والأدب مدعوان دائماً في الحقيقة إلى تنوير الجماهير ودعم القوى التقدميّة، والدفاع عن المثل والقيم العليا ونشرها، والنضال ضد الشر والظلم الاجتماعيّ. بتعبير آخر: إن الفن والأدب يجب أن يحيطا بكل جوانب الحياة (الوجود).. بكل ما يهم حياة الإنسان، ويُظْهِرَا الجوانب المتنوعة في حياة الفرد والمجتمع، ويستعيدا ويعكسا أفكار الإنسان وتطلعاته .. أفراحه وعاهاته وأمراضه، والعمل على تخليصه من هذه الأمراض. وبناءً على ذلك نستطيع القول: إن الفن ليس تجسيداً لفكرة مطلقة من خارج التاريخ الإنسانيّ، بل انعكاس لما هو في هذه الحياة الإنسانيّة. وعلى هذا الأساس فإن الجمال الحقيقيّ يتجسد في الحياة ذاتها والتعبير عن قضاياها، والحياة أسمى من الفن  في الحقيقة، لأنها مصدره وتربته وسنده الرئيس. فالجمال وليد الواقع، ومن خلال عكسه لهذا الواقع، نرى فيه الحياة كما يجب أن تكون حسب مفاهيمنا ومصالحنا. والحياة الجميلة هي تلك المشبعة بالعواطف والمطامح الخيرة، والمحورة لتتوافق مع مصالحنا كبشر. إن من الضرورة أن ننظر إلى الجمال من ناحيته الموضوعيّة، من حيث مصدره، ومحتواه، وأن ننظر إليه من جانبه الذاتي أيضاً، لأن الإنسان يتمثل الجمال ذاتياً. فكثيراً ما نرى أحكاماً وتفريعات متناقضة عن الشيء نفسه، أو الظاهرة نفسها عند الفنانين أو الأدباء، لكن هذا لا ينفي بحال من الأحوال الموضوعة القائلة بأن الطبيعة الحقيقيّة للجمال تكمن في الواقع ذاته كما بينا أعلاه، وإن الاختلاف يكمن فقط في طريقة فهم الجمال من قبلنا.

    أما الذي يشكل معيار الموهبة الفنيّة، فهو الصدق الحياتيّ في نتاج الفنان أو الأديب. أي الواقعيّة التي يشتغل عليها كل منهما أولاً. ثم التعبير عن درجة وشموليّة الحياة وسعتها، وأهمية الصور الفنيّة التي يبدعها الفنان والأديب ثانياً. هذا إضافة إلى عمق سبر الفن والأدب لأغوار الظاهرة التي يصورها كل منهما ووضوح التأويل والتصوير الفنيّ والأدبي الذين يبعثان الاستحسان أو الغضب، أو تأجيج الأفكار الجديدة عند المتلقي ثالثاً.

علاقة الفن في الفلسفة:

     إن الموهبة عند الفنان والأديب غير كافية للإجابة عن أسئلة الحياة، لذلك لا بد لهما من القدرة على التمثل الفلسفيّ لما حدث ويحدث في حياتهما المعيشة. أي القدرة على عزل الرئيس عن الثانويّ، والجوهريّ عن التافه، وهذا يعني على الفنان أن يكون مفكراً أيضاً. فالقوة المفكرة وملكة الإبداع متلازمتان كلتاهما للفيلسوف والرسام والنحات والشاعر والقاص… الخ على السواء، وعظمة العقل المتفلسف، أي عظمة العبقريّة الأدبيّة والفنيّة تأتي في القدرة على تمييز مكونات الأشياء من النظرة الأولى، أي التمييز بين جوانبها العرضيّة والجوهريّة، ثم القدرة على التنظيم الصحيح لهذه الجوانب في الوعي واستيعابها، بحيث يمكن استدعاءها بحريّة للحصول على كل التأليفات الممكنة.

     لا شك أن قوة الجانب الفنيّ تكمن في عقائديّة الفنان والأديب معاً، أي في تحزبهما، فالفنان التشكيليّ أو الأديب أو الكاتب العقلانيّ النقديّ لا يقف محايداً من الحياة، بل يناضل من أجل المصالح الجذرية للشعب – كما بينا في أكثر من موقع في هذه الدراسة – أي من أجل المبادئ الخيرة في الحياة. وعلى هذا الأساس فالفنان والأديب عموماً يجب أن يعكسا في المحصلة الرابطة الروحيّة التي تشد الحاضر إلى الماضي والمستقبل، وبالتالي هما مدعوان إلى نشر المثل الأخلاقيّة الرفيعة، وأن يكون العمل الفني الذي يقومان به متناسقاً بين الصورة والمضمون الأخلاقيّ والجماليّ.

التربية الجماليّة:

     إن التربية الجماليّة هي جزء أساس من عمليّة تربية الفرد والمجتمع، وخلق الفرد المتطور من كل الجوانب. إن موضوع علم الجمال يشكل النواة النوعيّة الخاصة لتطور الجمال وتجلياته في مختلف ميادين الحياة، كما يمثل قانونيات النظرة الجماليّة والتمثل الجمالي للواقع الموضوعي. إن الأدب والفن يشكلان ذروة التمثل الجمالي للعالم من قبل الإنسان.

     لا شك أن موضوع علم الجمال ليس قوانين تطور الأدب والفن، فهذه مهمة النقد الأدبي والنقد الفني. إن علم الجمال يدرس نظرة الإنسان الجماليّة للعالم الخارجي. أي عن الرائع في الواقع، وتمثل الإنسان له. إن الفن والأدب شكلان خاصان لتمثل العالم.. وعكس مفرداته وتغييره الهادف من قبل الفنان والأديب وفقاً لقوانين الجمال.

     إن رؤية الفنان أو الأديب الفكريّة لا تنعكس في مؤلفاتهما فحسب، بل وتحدد منهجهما الفنيّ أيضاً. إن الأدب والفن كشكلين خاصين لمعرفة العالم لا يمكنهما أن يتطورا بنجاح إلا بالاعتماد على نظريّة عامة في المعرفة، تبين قوانين الواقع الموضوعيّ وعمليّة معرفته والنفاد إلى ماهيّة الظواهر واكتشاف الروابط السببيّة بينها، مما يشكل أساساً ضرورياً لخلق نماذج فنيّة معممة.

     إن النظرة الجماليّة للفن والأدب تدحض النظرة الواحديّة لهما.. أي النظرة النموذجية السطحيّة للفن والأدب، إن النظرة النموذجيّة هذه هي النظرة التي تدمج الخاص بالعام على أنهما سبيكة انصهر فيهما المضمون الاجتماعي، والشكل الفني، والمثل الجمالية معاً.

إن علم الجمال في الفن والأدب هو الذي يرفض النمذجة السطحيّة ويؤمن بأن التناقضات هي التي تحرك المجتمع، وهي قوة للتطور والصراع بين القديم والجديد، بين الرث والجيد، بين الأصالة والمعاصرة، بين التقليد والحداثة. فمن خلال هذا الصراع يتم تجاوز التناقضات التناحريّة والصعوبات، وهذا سينعكس بالضرورة داخل الفن والأدب.

نعم .. إن علم الجمال الواقعيّ العقلانيّ يحارب علم الجمال الرجعيّ بكل أشكاله وتياراته المشبعة باللاإنسانيّة واللاعقلانيّة والذي يقوم على مناهج غنوصيّة (باطنيّة) في المعرفة المتهافتة. ومن هذا المنطلق يجب التعامل بحذر مع المناهج الجماليّة التي ظهرت في مرحلة ما بعد الحداثة، كالفرويدية والبراغماتيّة والتجريديّة والسورياليّة وغيرها، كونها ذات نزعات فرديّة ذاتيّة تتجاهل متطلبات الحياة الاجتماعية القائمة على مصالح المجتمع بعمومه.

 *كاتب وباحث من سورية
 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى