ثقافة

في سقوط الدولة الفجة قبل نضوجها: الإسلام في عيون الغرب

كلّ ما ينشر أو يقال  بين أوروبا وبريطانيا يدور في الإسلام والمسلمين. الغرب مسكون بأحوال المسلمين ومستقبلهم حيث يعاين المتابع هنا مقولات وأحاديث مختلطة حول التعدّد والتنوّع في النظرة إلى المسلمين. ليس المقصود شؤون الدين والدنيا بالمعنى الفكري والتحليلي الممدود فوق طاولات الغرب فقط، سواء في الجامعات أو الحلقات والأنشطة اليوميّة والمقاربات البحثية والنصوص التي تكتسح الثقافة الجديدة المدموغة بالإسلام، بل بالتوسّع الملموس إلى درجة صارت تتقدّم فيها العناصر الإتنية والدينية واللغوية والتاريخية والمؤسسية والعنصرية والنبذ المرتجل الممكن إختصارها بالإسلاموفوبيا موضة العصر. بين الزيارة والأخرى والإحتكاك بالشباب والباحثين وأساتذة الجامعات يتغيّر الخواف وتتبدّل الأسئلة بين نوعين من المسلمين: مسلمو تركيا والمسلمون العرب وشتّان ما بين الإثنين. تكاد تركيا تشغل مقدّمة هذا الخواف وأمكنته في الإيديولوجيات السياسية الأوروبية كما في العقل الأوروبي كعنصر أساسي يهدّد مستقبل هويات الدول والشعوب والمهاجرين وكيفية هضمهم أو التعامل والتخالط المستمرّ معهم. إنّها ثقافة البحث المستعصي عن تنقية أوروبا من الطغيان التركي الجاهز والإبتزازي بإسم جحافل المسلمين الملتصقين بالباب التركي تأهّباً نحو أوروبا. هي المقدّمة التي لن تنصاع لها أوروبا الموحدة بإختلافاتها الكثيرة ولو بقيت تركيا مصلوبة فوق عتبة أوروبا إلى الأبد. هناك بالمقابل طراوة وقبول واضح ولطيف للطيف الإسلامي القادم من الجزيرة العربيّة والخليج.
تفرز هذه الأجواء مجتمعةً صعود الفكر والمناقشات الديني الهائل لا المقاربات الرزينة في استنباط أصول الحكم المعاصر ومستقبله، بعدما طغى على الفكر البشري ما بهر الكثير من مفكّري الشرق الإسلامي وطلابه من حيث مسألة هجران الغرب وابتعاده عن الأديان منذ الثورة الفرنسية العلمانية مروراً بالبولشيفية الإلحادية وصولاً إلى الثورات الملوّنة التي استلهمت مختلف الألوان والأشكال في تحريك الشعوب. وهنا ملاحظة: ليس اختيار ألوان الثورات مسائل عشوائية مزاجية، بل مسائل استراتيجية مدروسة تنظر إلى الشعوب والمجموعات البشرية في سلوكها تماماً كما ننظر نحن إلى طفل صغير لا تغريه سوى الهدايا والأشياء المزركشة والملوّنة بشكلٍ فاقعٍ وبأشكالٍ غريبة عجيبة وكبيرة الحجم.
لا نقول أنّ هناك أكثر من إسلام مقيم في عين أوروبا بقدر ما يمكن للباحث أن يستشف أكثر من نظرة سياسيّة وإجتماعية متباينة كليّاً بين إسلامية تركيا وإسلامية الخليج مثلاً. ليس بسيطاً أن يفتح الخليج ذراعيه للبابا عبر أبو ظبي التي لا تتبجّه ولا تتوعّد أو تتهدّد ومثلها دبي وغيرها. تلك هي النظرة التي تبدو فيها ظلال إسطمبول وفد خبت كثيراً.
كيف؟؟
كانت بالإمس، فوق اللسان الأميركي، تلك "المدينة المثيرة والكوسموبوليتية التي تضمّ عدداً كبيراً من الثقافات والحضارات المختلفة، وتشكّل نقطة التقاء أساسية بين الشرق والغرب". لقد ظهرت في عين الأميركي بدهاء سياسي مكشوف عبر منظّر "صراع الحضارات" هنتنغتون (في 16/6/2005 ) في اسطنبول عندما حرّض فيها تركيا على أوروبا في الوقت الذي كانت تركيا تتحجّب لتعلن نفسها حامية المسلمين في العالم أو مرجعيتهم المفترضة التي كانت تشابه الفكرة المرذولة بل المستحيلة في يقيننا مفكّرين عرباً وإسلاميين. الغريب أنّ تركيّا بانت آنذاك علمانيّة في نظر الولايات المتحدة الأميركية بينما بانت أوروبا تجنح  مجدّدا إلى الدين وتلك مفارقة مقصودة ترهّلت لكنها لم تمت نهائياً بعد بعد.
يمكنني المجازفة مستنتجاً بالقول أن فهم أوروبا للإسلام يختلف كثيراُ عن الفهم الأميركي له. وأكثر من ذلك لقد لحقت أميركا أوروبا إلى هذا الفهم . لم تعد تروّج أبداً للفكرة المرتجلة البعيدة بتوكيل الإسلامية لتركيا الخبيرة بهم عثمانياً أوالمستيقظة إلى جذورها الإسلامية لكنّها الخطيرة في أكثر من إتّجاه. كانت إسلامية تركيّا ضمن ردود الأفعال على يقظة المسيحية الأرتوذكسية في بلدان أوروبا الشرقية ليس أكثر. وكانت إسلاميتها المتجددة تستند بالتالي إلى خبرة موهومة ومرذولة لا تعني قطّ البلاد العربية والإسلامية التي ضبطتها تركيا في مرجعية متشاوفة واحدة طيلة 415 سنة تقريباً قبل أن تسقط في فراشها مريضة في أعقاب الحرب العالمية. لا يعيد التاريخ نفسه دوماً إذ لم يعد لتركيا في أوروبا وربّما في أميركا والروسيا ما يؤهلها لأن تقرع الأبواب مجدداً  سواء جاءت بإدعاء البعث لعلمانيتها أوتصفية ديكتاتوريتها بإدّعاء ديمقراطيتها المتحولة أو نهضة المرأة فيها، أم استغرقت في ردود فعلها الدينية حيال نظرتها إلى الإسلام والمسلمين. كان الهم الأميركي فجّاً في إغراء تركيا بتقديم نفسها كنموذج معاصر لما أسموه بالإسلام الجديد أو المعاصر وجاءت النتيجة أن سقطت الدولة الفجّة قبل نضوجها لأنّ التربة لا تقبل التحوير أو التزوير في قدسيتها وإنباتها.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى