رأي

قراءة في اختلال الأنظمة الديموقراطية(نسيم الخوري)

 

كتب الدكتور نسيم الخوري

يبدو المِلحُ الأساسي الذي يغذّي الشعوب والحركات الإجتماعية الناهضة والرافضة والمسكونة بنقد الحكومات والتظاهر وشعارات التغيير المتقاربة ذو طعمٍ عالمي مغرٍ ومُثير للأحاديث والأبحاث الجدلية الشائعة. تبدو الديمقراطية، وفقاً لهذه الفرضية، مفهوماً خرج من أطره النظرية الأولى مع آباء الفكر للثورة الفرنسية، بل صار هدفاً معاصراً خاضعاً لأمزجة الجماهير بما يُفرغه من صلاحيته ومضامينه وتجاربه القديمة. قد لا تكون العلة سوى في تشويه الديمقراطيات ومعضلاتها بتجارب ما عادت تُداوي ملل الناس ورفضها سوى بالنقد والنزول إلى الشوارع والعنف. تلك ظاهرة كونية في القناعات والقيم وحتّى في الهويات العامة الوطنية التي بدت دون الهويات الفردية والعالمية المكتسبة والتي يصعب تحديد آثارها في الإنتخابات المتنوعة والأنظمة المتعددة. 

تسحبنا هذه التحولات إلى الإنتخابات الرئاسية الأميركية التي أوصلت جو بايدن إلى البيت الأبيض وكأنّه المقيم مع سلفه دونالد ترامب في الصحافة ورصد مزاج الرأي العام الأميركي المنتظر. وبصرف النظر من الفروقات في شكل الحكم والأسلوب بين الرجلين، فإنّ رياح إعلامية أخرى لا تُفرّق بينهما من حيث الخطوات أو السياسات المستمرّة وراء شعار”أميركا أوّلاً” وخصوصاً بعد انسحاب أميركا بايدن من أفغانستان والتي انتقدها العسكر على الملأ (29/10/2021). يُنظّر لهذا الإنسحاب وكأنه لم يحصل بهدف الإيحاء بملامح المستقبل الغامض الحافل بالحقائق والخيالات التي تصبّ قطعاً في استراتيجات التصدّي للصين. وما نسف صفقة الغواصات الفرنسية لإستراليا التي هزّت العلاقات الفرنسية- الأميركية-البريطانية سوى القوطبة الأميركية لضرورة استبدالها  بغواصات دفع نووي تصب في مستلزمات منعة التصدي الإسترالي  للصين.  

يمكن الإنسحاب أيضاً نحو حكم المانيا موطن المقولة الثابتة في التفريق جذرياً بين العقلين الأميركي والإلماني في اتّخاذ القرارات. يبدو الإلماني مطبوعاً بثقافة إقفال الأبواب والدراسة والتمحيص قبل اتّخاذ القرار. تلك ثقافة خاصة فرزها التاريخ الإلماني المحافظ وفي سريّته  الذي دفع المانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية أن تُقفل أبوابها وتُفكّك أسباب هزيمتها ونتائجها للخروج  بصورة صلبةً مجدداً نحو العالم. يأخذنا التفكير نحو احترام العقل الإلماني المحافظ  والسريّة العملانية. نتذكّر الوساطة الإلمانية بين اسرائيل وحزب الله وإدارة المفاوضات السرية بتبادل السجناء كمثال على التماهيات الكبرى بين مقاربات الأعداء التاريخيين. بالمقابل، يفترق العقل الأميركي، في هذا المجال، في ادارة الأشياء حيث تظهر الأبواب والنوافذ المشرّعة منها تتدفّق ملامح “العظمة” في الشكل ولو أنها تخفي في الخزائن استراتيجيات كبرى. 

يبرز نوع من التراجع والهبوط بل الإهتزاز في صورة الحكم القادم في المانيا، بعدما خرجت آنجيلا ميركل المعروفة شعبيّاً، ب”الماما” و “المرأة الحديدية” بعد ستة عشر من سدّتها (26/10/2020) و30 عاماً في معترك حياتها السياسية الحافلة بأرقى الصور وأكثرها تواضعاً وصلابةً وزهوا وكأنها تذهب فتترك وراءها غموضاً إن لم نقل تراجعاً وفراغاً كثيفاً يصعب ملؤه بين أحزاب الإشتراكيين الديمقراطيين والمحافظين والخضر، الأمر الذي قد يتطلّب ربّما إجراء مفاوضات مطولة لتشكيل الائتلاف الذي سيحكم البلاد بين حزب الإتحاد الديموقراطي المسيحي والحزب الديموقراطي الإشتراكي وحزب الخضر، حتّى ولو أن ذلك فاقم من شلل الاتحاد الأوروبي حتى بدايات العام 2022. تمكنت ميركل في العام 2008 من إنتشال ألمانيا من أسوأ الأزمات الإقتصادية والمالية التي عرفها العالم في عقود، وأنقذت اليورو والمشروع الأوروبي برمته بعد الإنهيار اليوناني، وكان لها الدور البارز في مجابهة كورونا وتداعياتها من كوارث الإغلاق. تستحق ميركل، في ما نحن فيه من التحوّلات في خيارات الشعوب، أن نستقبلها أمام الزاوية الثالثة من المثّلث الذهبي في تاريخ قيادة المانيا العظيم التي بنى زاويتها الأولى مؤسس الإمبراطورية بسمارك وصانعها، ورفع زاويتها الثانية هلموت كول بتوحيد الإلمانيتين بحيث اندفعت ميركل من فوق جدار برلين المتهالك في ال1989، لتصبح زعيمة المانيا بعد وحدة الإلمانيتين، كمات في الإندفاع نحو بناء منظومة الوحدة الأوروبية التي لطالما وصمتها أميركا وما زالت توصمها بالشيخوخة والإنهيار. 

لن يفتقد الإلمان ميركل إذن، بقدر ما قد تفتقدها القارة الأوروبية في لحظات حرجة ابتعادها عن أميركا واهتزاز حلف الأطلسي  ليظهر إيمانويل ماكرون طامحاً  لوراثة ميركل أوروبياً ليواجه أميركا الخارجة باهتماماتها من أوروبا ومن الشرق الأوسط وبلاد شمالي أفريقيا. ويتطلّع بالطبع إلى قيادة القارة الأوروبية وفكفكة عقدها حيال أميركا، وكلّ ذلك مرهون بفوزه بولاية رئاسية ثانية في فرنسا في الإنتخابات القادمة في نيسان/أبريل المقبل.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى