رأي

“المجرم المضطرّ للإجرام ليس بمجرم”(د.حيان حيدر)

 

بقلم حيّان سليم حيدر

في قصيدة معبّرة عن الظلم وإنعدام العدالة الإجتماعية وتحت عنوان “اليتيم” يقول الشاعر:

“المجرم المضطرّ للإجرام ليس بمجرم” (*)

 

منذ نعومة تفكيري وأنا أحاور نفسي عمّا رمى من وراء هذه الصرخة الشاعر الذي ربّاني وهو الضليع في الموضوع، حائز على شهادة الدكتوراه في القانون من جامعة السوربون في باريس ودبلوم العلم الجنائي، وسبق له أن تقلّد في مناصب قضائية عدّة قبل السياسية منها…

وأنا أسأل نفسي: كيف يجوز أن يكون المجرم مضطرًّا للإجرام؟  علمًا أنّني، وكلّ مَن تعمّق في معاني القصيدة (المؤلّفة من 115 بيتا) وقراها كاملة يدرك تمامًا مقصد الرسالة التي أراد الشاعر أن يوطّنها في وجدان القارىء.

… إلى أن وصل  لبنان إلى ما وصل إليه من “جرجرة ذلّه في زواريب الحياة”، مع تعمّدي إغفال الأسماء والمراجع المرتبطة بالذين أوصلوه إلى هذا الدرك، لكثرتها وإستحالة إتّساعها في هذا الحيّز.

وما هو الذي إستفزّك يا حيّان؟..  بسطة سمك؟

نعم بسطة السمك التي صادرتها مؤخّرًا قوى الأمن اللبنانية في مدينة صيدا بذريعة عدم إستحصال صاحبها على رخصة.  ومن ثمّ مشهد الأب المفجوع أمام عربته المحطّمة بحمولتها المبعثرة، وهو يهرع إلى عناصر قوى الأمن، ذاك المُسمّى “وطن”، لـِ”يُهْديه” إبنته الرضيعة الجائعة، التي في الملفّة ما زالت، طالبًا منه أن يأخذها ويُطْعِمها لأنّ والدها بات، بفعل قوى الـ”وطن”، من دون مورد رزق.  نعم.  لقد إستفزّني هذا المشهد شارحًا المغزى من وراء عبارة “المضطرّ للإجرام”.

هذا المشهد المؤثّر، الطاعن في الوجدان، لا يسمح لي التعاطي في هذه المقالة بأسلوبي الساخر المعتاد، فأعتذر من القارىء فالحدث فعلًا جلل.

أنا حزين فعلًا.  بل أنا حزين حزنًا كبيرًا ومن نوع آخر.  حتى في الحزن كان بإمكاني المرور في عالم السخرية، ولكن أمام هذا المشهد شعرت أنّني لا أملك هذه الإمكانية حتى.

لقد أحسست بألم الأب العاجز عن إعالة عائلته، الأب الذي أصبح عالة على عائلته.  حتى أنّني تخيّلت، وهذا نادر عند الرجال، كيف يمكن أن يكون إحساس الأم، الله يلطف.  أنا لم أشاهد الأم تصرخ وجعها في وجهنا لكنّي، كإنسان، شعرت بألمها، كيف يمكن أن يكون.  كان عليكم مشاهدة وجه الشاب، ذاك الـ”وطن” المسكين، وهو يتراجع مذعورًا أمام الأب، مرتعبًا من أن يصبح مسؤولًا عن الطفلة !

وتقهقرت (من قهقرى وقهر معًا) ذاكرتي رجوعًا إلى حوادث مشابهة، حادثة الأم العجوز التي سيقت مكبّلة إلى المخفر بعدما أزيل مأواها الوحيد، الغرفة على السطح في بلدة نائية، والتي “خالف” وجودها “قوانين” البناء والتنظيم المُدُني.  وهل أذكر الأب الذي وضع حدًّا لحياته أمام المستشفى الذي لم يستقبل ولده أو المدرسة التي طردت المُسْتَمْهِل دفع القسط لولده أو… أو…

والجرم بالجرم يُذْكَر، عاودتني حادثة الشاب الذي روّع زبائن البنك فاحتجزهم حتى إستعاد أمواله، أمواله يا ناس، أمواله فقط لا أموال الغير، وكيف أنّ القضاء، وفي اليوم التالي بالذات، أصدر حكمًا بسجن “الجاني” وسجن زوجته التي لم تكن أصلًا في موقع الحادثة وأمر باسترداد الأموال التي هي، في القانون وبموجب العقد الذي وقّعه “الجاني” مع البنك، هي من حقّه، فذهبت كلّها إلى الحجز (الأموال و”الجاني”) وذهبت القضية إلى النسيان.

ومن مخزون النسيان نبشت قولا شهيرا يرفد عنوان هذه الصرخة:                                                                                                                                                                                                                                

“الجريمة هي أحدى طرق الإعتراض على غياب العدالة الإجتماعية”

(فيودور دوستويفسكي – “الجريمة والعقاب”)

والموضوع هنا متشعّب لأنّ القضاء تحرّك في هذه الحادثة خلال 24 ساعة بينما تقبع قضايا الناس سنين (ومرّت)، لا بل عقودا، تنتقل من تأجيل إلى تأجيل، ومن تغيير إلى تغيير بين القضاة والمحاكم والتشكيلات والمواعيد واللوائح إلخ…  ولن ينفع هنا القول إنّ القضايا الجزائية لها أولوية على القضايا المدنية، فنحن نتكلّم عن 24 ساعة لقضية هنا مقابل 24 سنة لقضية هناك، ولا أبالغ في هذا الأمر.

بسطة “الرزق” بحاجة إلى رخصة.  وأين أنت من ذلك كلّه يا محمد البوعزيزي، رحمك الله، بعدما هَرِمْتم أنت والثورة التي أطلقتها بسطتك المصادرة ذات يوم جمعة في كانون الأول من العام 2010 من أمام مقر ولاية سيدي بوزيد في تونس؟

وما أدراك ما هي الأمور التي بحاجة إلى رخصة في لبنان؟  وهل نعدّد قليلها معًا؟

سرقة أموال الناس بحاجة إلى رخصة وهي تُمْنَح بشكل إعتيادي: رخصة للبنك وللصيدلية وللمطاحن والأفران ولمحطة الوقود ولناقلها وللنفايات والإسمنت والمولدات والمياه والإتصالات وكلّ ما يخطر ببالك من سلع وخدمات.  هذا ولن ننسى رخص السلاح الفردي، زينة الرجال، ورخصة الزجاج الداكن ذاك “الفوميه”، يا ساتر أو زينة النساء، ورخص النُمَر والتنمير إلخ…وليس أخيرًا أقرأ أنّه: صدر في 23 شباط 2022 قرار لوزير الإقتصاد لتمديد مهلة تقديم طلبات زرع القمح والشعير لموسم عام 2022 لغاية 15 أيار (بالتزامن البريء مع الإنتخابات).  عن جدّ؟  العالم كلّه بات في أزمة الحصول على هذه المواد الحياتية، ولا تنسوا الشعير، ونحن نُقَنّنها ونحاصر أنفسنا، بالتزامن مع الحصار الخارجي، بواسطة الرخص؟ 

لهذه الأسباب مجتمعة ولغيرها من الأسباب نقول: بعد أن وزّعتم الرخص لسرقة الناس، هلا أعطيتمونا رخصة لنصرة المظلوم؟

ونعود إلى البداية.  فعلًا، يا أهل الرخص (حرّكها كما شئت) لقد  أصبتم الآن في تفسيركم لمعنى                                                                                       

“المجرم المضطرّ للإجرام ليس بمجرم” … وفي تبريره أيضًا.

يا جماعة الإعلام، أين أنتم من متابعة “اليوم التالي” لهذه الحوادث الإجرامية؟

يا قوى القانون والنظام، لا تجعلوا من الآباء عالة على أهلهم وعالة على بلدهم وعالة على ضمير البشر !

 

بيروت، في 26 شباط 2022م.                                                  

 (*) سليم حيدر – ديوان “آفاق” – قصيدة “اليتيم” – 1945 – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ش.م.ل. – 2016.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى