منوعات

عن رقصة “le sabar” “الصَبَر” النسائية، وتموّج الثقافات بين لبنان والسنغال على أرض فرنسا(مريانا أمين)

 

مريانا أمين – باريس- الحوار نيوز

قبل أن أسمع عن السنغال من كتب أو أدباء، كانت أولى رواياتها قد سكنت قلبي على لسان أصدقائي اللبنانيين المغتربين في أفريقيا وخاصة في السنغال وكيف كان دائما حديثهم مليء بشغف لا يوصف، فيصفون معالمها وألوانها وتراثها وجمال مدنها وطبيعتها وشمسها التي لا تغيب وأرضها النابضة بالحياة، وكأنها جزء من روحهم، وأخبروني أيضا عن الضيافة والكرم الذي لا يعدّ ولا يحصى، عن طقوسهم الاحتفالية التي تحمل في كل لحظة منها ذاكرة تاريخية، وعن عراقة تراثهم الذي يمتد عبر الأجيال.
بالنسبة لهم، السنغال ليست مجرد أرض بعيدة، بل هي وطن آخر يحيا في عروقهم، ويعيشون فيه كجزء من هويتهم.

كلماتهم كانت دائما كالسحر بالنسبة لي، جعلتني أشعر بالسنغال كما لو أنني أعرفها، حتى وإن كانت المسافة بيننا آلاف الأميال. كانوا يتحدثون بحب عن رقصة اسمها “le sabar” “الصَبَر”، عن طقوسها النسائية المميزة التي تُعبّر عن القوة والحرية، ويصفون لي كيف أن لكل حركة فيها قصة من تاريخ وثقافة الشعب السنغالي.

لم يكن ذلك الحديث عن السنغال وأرضها فقط، بل عن رجالها ونسائها، وعن الفرح الذي يسكنهم ويملأ أعيادهم.
هذه الاحاديث عن الحرية جعلتني أقرأ لاحقا كل ما يتعلق بحرّية الشعوب لأنني أعشق كلمة “حرية”.

من هنا ومن خلال إعجابي لاحقا بالأدب السنغالي، وتحديدًا بالكاتب “ليوبولد سيدار سنغور”، ذلك الانسان الذي تُجسّد كتاباته روح إفريقيا، والذي ترك بصمة لا تُمحى في تاريخ الأدب الفرنسي والإفريقي على حد سواء. من هنا بدأ شغفي يتزايد، ليس فقط بحديث المغتربين لي عن السنغال، بل بما قرأت أيضًا عن أديبها الذي لم يتوقف عن محاربة التهميش الثقافي، وأعطى الأدب الإفريقي لونًا جديدًا.

أما أنا! فلم أزر السنغال يومًا، لكن قلبي ذهب إليها مراتٍ كثيرة. من خلال مشاعر سنغور الذي لا يكتب فقط، بل يغني بالحروف، وينسج من اللغة جسورًا بين الروح والقارة. فأعجبت به وبكتاباته منذ اللحظة الأولى، وأحسست أن كلماته تهمس لي عن وطن لم أعرفه جسدًا، لكنني شعرت به بعمق. كل ما قيل عن السنغال قيل بحب ودفء، حتى أصبحت أتخيل شوارعها وألوانها، وكأنني عشت على أرضها.

إلى أن أتتني دعوة من جمعية “CRAO” من خلال “المركز الثقافي للعالم العربي” في فرنسا، بمناسبة العيد الخامس والعشرين لمهرجان “الأسبوع الثقافي الافريقي”
“25 ans de la semaine culturelle Africaine”
ويتخلله حفلا سنغاليا يُقام في مدينة روبيه “Roubaix” شمال فرنسا في كل عام، فلم أتردد لحظة في الذهاب.

وعندما علم السنغاليون أنني لبنانية، بدت الفرحة واضحة في عيونهم، وكان استقبالهم رائعا. غنوا لي، ورقصوا معي، وعانقوني بحرارة، كأنهم يعرفونني منذ سنوات طويلة. كانت تلك اللحظة سحرية، شعرت فيها كأنني جزء من عائلتهم، كما لو أنني كنت في بيتي، رغم أنني لم أزر السنغال أبدًا.

وفي أحد مسارح مدينة “روبيه”، وتحديدًا قاعة salle watremez خلال أمسية احتفالية نابضة، وجدتُ نفسي في قلب مشهد استثنائي، حيث تلتقي الثقافات وتتحاور الهويّات. رقصات إفريقية على أرض فرنسية، بحضور عيون عربية حيث كان “le sabar” “الصَبَر” يروي قصته.
أما “الصَبَر” بحدّ ذاته فهو رقصة وإيقاع تقليدي من السنغال، يتميّز بالحيوية والتعبير الجسدي العميق. هي رقصة تُعاش كفعل احتفال بالتراث والذات، وخصوصًا حين تُؤدّيها النساء. وفي هذا الاحتفال بالتحديد كانت “الصَبَر” نسائية كي تتحوّل الراقصات إلى راويات لحكايات أفريقية، تنقل من خلال جسدها مشاعر القوة، الحنان، الانتماء والحرية.

تصاحب كل رقصة منها طبول ذات طابع روحي، كأنها تُنقّب عن الذاكرة الجماعية للقارة. ومن خلالها، تظهر المرأة السنغالية كرمز للتواصل بين الماضي والحاضر، وكجسر تعبيري يحمل إرثًا ضاربًا في الجذور.

أما وجودي كلبنانية كان مؤثرا لي وللأفارقه خاصة أننا نتابع هذا العرض الإفريقي، في قلب فرنسا. بلدٌ يُجمّع على أرضه ومسارحه تنوّع العالم، من الثقافة العربية إلى الإفريقية، من آسيا إلى أوروبا، وفي هذا اللقاء المفتوح بين الشعوب، تشعر أنك لست غريبًا عن أي ثقافة، بل ضيفًا مُرحّبًا به في بيت الإنسان.

ولأن الزينة في الثقافة الإفريقية ليست مجرد تفاصيل، فقد كانت القلائد والخواتم والأقمشة الملوّنة أيضًا رسائل غير منطوقة عن الهوية والكرامة. كل قطعة، كل خيط، يحمل دلالة، كل نقشة تروي قصة عن المرأة والمجتمع والروح.

فرنسا، التي احتضنت هذا الحفل، لم تكن مجرد مسرح للحضور، بل كانت ساحةً حقيقية للتلاقي، حيث يمكن للمرأة السنغالية أن ترقص بكل فخر، وللبنانية أن تُصفّق بكل حب، وللثقافات أن تتداخل بلا حواجز.

إن العلاقة بين لبنان والسنغال علاقة قديمة، مبنيّة على الود والتاريخ المشترك. وفي تلك الليلة، شعرت أنني لا أُشاهد عرضًا، بل أعيش تجسيدًا لصلات المحبة بين بيروت وداكار، عبر باريس.

في نهاية العرض، لم أكن فقط مشاهدًا، بل كنتُ شريكة في لحظة إنسانية فريدة. لحظة تُذكّرنا أن الفن كالحب لا يعرف حدودًا……

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى