تراثثقافة

عندما قالت زينب : فوالله لا تمحو ذكرنا !(واصف عواضة)

 

 كتب واصف عواضة – خاص الحوار نيوز

تيسّر لي خلال الأيام الماضية زيارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية والعراق ،برفقة نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب للمشاركة في الذكرى المئوية لتأسيس الحوزة العلمية في مدينة قم.

والواقع أنها ليست زيارتي الأولى لمدينة قم ولا للجمهورية الإسلامية. فقبل 46 عاما كنت في عداد وفد المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى برئاسة الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والذي ذهب إلى إيران في أواخر شهر شباط عام 1979 لتهنئة الإمام الخميني بنجاح الثورة الإسلامية،وقد تيسّر لي لقاء الإمام الراحل مرتين ،وزيارة طهران وقم ومشهد.

وقد راعني في ذلك الحين رؤية مدينة “قم” في أسوأ ما يمكن أن تكون عليه المدن من إهمال وتقصير مقصودين من سلطة الشاه  في الخدمات العامة . كانت “قم” قرية كبيرة معظم شوارعها غير معبدة تغزوها الوحول والنفايات. ولم يكن جنوب طهران أفضل من ذلك، بينما الغنى والثراء باديان في شمال العاصمة ،في حين كانت مشهد أفضل حالا.

وبين الأمس البعيد واليوم زرت إيران أكثر من عشرين مرة بدعوات وزيارات رسمية وخاصة ،وقد واكبت خلال هذه العقود التطور العمراني والخدماتي للمدن الثلاث،وأدهشني في قم هذا التقدم الذي حولها من قرية كبيرة إلى مدينة مترامية الأطراف تضج بالحياة والعمران والخدمات التي تضاهي أفضل مدن العالم ،تكسوها الأشجار والخضرة والتنظيم والشوارع الفسيحة والأسواق التجارية ،وهو ما يشهده الزائر في جنوب طهران ومدينة مشهد أيضا ،وهذا ما جعلني أقول عندما طُلِب إلي الكلام أمام جلسة خاصة لجمع من السادة العلماء:”إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية دولة تستحق الحياة”.

وعود إلى بدء، إنسجاما مع عنوان هذه المقالة ،فقد تيسّر لي برفقة العلامة الخطيب خلال الأسبوع المنصرم زيارة معظم مراقد ومقامات الأئمة والصالحين في إيران والعراق ،بدءا بمقام السيدة المعصومة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر في “قُم” ،وانتهاء بمقام الإمام علي بن أبي طالب في النجف ،مرورا بمرقد الإمام علي الرضا في مشهد ،ومقام الكاظميين في بغداد ،ومقامي الإمام الحسين والعباس في كربلاء.

طبعا لم يفاجئني هذا الإنجذاب الشعبي لمراقد الأئمة السالفي الذكر ، فقد شاهدت بعضه من قبل ،لكن هذا الزحف والزحام الدائم حول هذه المراقد والمقامات، هو ما يستدعي التوقف عنده طوال قرون من الزمن ،وهذا العشق المبالغ فيه أحيانا من الزائرين ،وهو بأي حال عشق صادق غالبا ما تغطيه الدموع والعواطف الجياشة تجاه شخصيات تاريخية غاب معظمها عن هذه الدنيا قبل أربعة عشر قرنا من الزمان .ربما هو الإحساس بالظلم الذي تعرضوا له،والأغلب أنه رسوخ عقيدي لا يمحوه تقادم الزمن.

ويحملني هذا المشهد على العودة إلى التاريخ ،يوم وقفت السيدة زينب إبنة علي بن أبي طالب وشقيقة الحسين شهيد كربلاء ،تصرخ في وجه يزيد بن معاوية قائلة :والله لا تمحو ذكرنا!  

وينقل الرواة خطبة زينب في مجلس يزيد بن معاوية يوم نقل الأسرى من كربلاء إلى الشام بعد مقتل الحسين وأصحابه ، وقد سَمِعَته يقرأ ابيات ابن الزِّبَعرى:


ليتَ أشياخي ببـدرٍ شَهِـدوا

جَزَعَ الخزرجِ مِن وَقْعِ الأسَلْ

 فأهَلَّـوا واستَهـلُّـوا فَرَحـاً

 ثمّ قالـوا: يا يزيـدُ لا تُشَلّْ!

 لستُ مِن خِنْدَفَ* إنْ لم أنتقـمْ

مِن بني أحمدَ ما كان فَعَـلْ!

فقالت زينب في خطبتها تلك:  

   أظنَنْتَ يا يزيد حيث أخَذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبَحنا نُساق كما تُساق الأُسارى، أنّ بنا على الله هَواناً وبك عليه كرامة ؟! وأنّ ذلك لِعِظَم خَطَرِك عنده! فشَمَختَ بأنفِك، ونظرتَ في عِطفِك، جَذلانَ مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مُستَوسِقة، والأمورَ مُتَّسِقة، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا. مهلاً مهلا! أنَسِيتَ قول الله تعالى: “ولا يَحسَبنَّ الذين كفروا أنّما نُملي لَهُم خيرٌ لأنفسِهِم، إنّما نُملي لَهُم ليزدادوا إثماً ولهم عذابٌ مُهين” ؟! أمِن العدلِ، يا ابنَ الطُّلَقاء، تخديرُك حَرائرَكَ وإماءَك وسَوقُك بناتِ رسول الله سبايا قد هُتِكت سُتورُهنّ، وأُبدِيت وجوهُهنّ ؟! تَحْدُو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهلُ المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوهَهنّ القريب والبعيد والدنيّ والشريف! ليس معهنّ مِن رجالهنّ وَليّ، ولا مِن حُماتِهنّ حَمِيّ، وكيف يُرتجى مراقبةُ مَن لفَظَ فُوهُ أكبادَ الأزكياء، ونَبَت لحمه بدماء الشهداء ؟! وكيف يستبطئ في بُغضنا أهلَ البيت مَن نظرَ إلينا بالشَّنَف والشَّنآن، والإحَن والأضغان ؟! ثمّ تقول غيرَ متأثّم..  

وأضافت السيدة زينب:

فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها ( أي لا تغسله )، وهل رأيُك إلاّ فَنَد، وأيّامك إلاّ عَدَد، وجمعك إلاّ بَدَد!! يوم ينادي المنادي: ألاَ لَعنةُ اللهِ علَى الظالمين ! فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يُكملَ لهم الثواب، ويُوجِبَ لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنّه رحيمٌ ودود، وحسبُنا اللهُ ونِعمَ الوكيل.(انتهى)

..ولا كلام بعد كلام زينب!

 *(خندف هي مجموعة قبائل عربية تعرف باسم مضر الحمراء)

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى