منوعات

علّقوا المشانق كي لا تسود شريعة الغاب:من علي شبلي الى الحاجة مهى (عادل مشموشي)

بقلم العميد د. عادل مشموشي

بالأمس حصلت حادثة قتل ثأرية الطابع، فظيعة من حيث الظروف التي ارتكبت فيها لكونها حصلت امام مرأى ومسمع من مئات المدعوين الى خفل زفاف، في حين كانت فرقة راقصة تزف العريسين.

ومنذ عشرة أيام بالعد والكمال شهدت العاصمة بيروت جريمة مروعة من أفظع الجرائم، هزت ضمائر اللبنانيين جميعا من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، جريمة ارتكبتها عاملة منزل من الجنسية الأثيوبية، بقتلها لمخدومتها الحاجة مهى حسون “نائبة رئيسة جمعية الغنى الخيرية”. جريمة ارتكبت بدم بارد، وبأبشع الأساليب الإجرامية عنفا ووحشية، بدافع السرقة.

قدِمت العاملة الاثيوبية الى لبنان في الثاني من شهر تموز الفائت، وارتكبت جريمتها عن سابق تصور وتصميم في العشرين منه، اي بعد مرور أسبوعين على قدومها إلى لبنان، والذي لم يسبق لها ان زارته او عملت فيه سابقا او تعلمت بعض الكلمات من اللغة المتداولة فيه. 

كيف لعاملة منزل لم يتسن لها بعد التعرف على طبيعة البلد أن ترتكب مثل هذه الجريمة الشنعاء قبل ان تتعرف على مخدوميها، وقبل ان تستطيع التواصل مع ربة المنزل ولو بكلمات معدودات لتعي خيرها من شرها، وهي التي صرحت بأن مخدوميها كانا يعاملانها بالحسنى.

أغراها شيء قليل من المجوهرات، فبدت وكانها منذ أن وطأت قدماها منزل مخدوميها ومشاهدتها مصاغ ربة المنزل نسيت سبب قدومها للعمل وبدأت في التفكير بكيفية التخلص منها وسرقة مَصاغها.

استقبلت ربة المنزل الحاجة مهى حسون عاملة المنزل التي كان قد أحضرها لها مكتب الخدم الذي تتعامل مع مباشرة من أثيوبيا ،بكل حفاوة وود نابعين من تربيتها العائلية وقناعاتها الدينية وثقافتها الانسانية، وكانت تشعر بالرضى عنها واعربت عن ذلك في اكثر من جلسة امام صديقاتها وذويها بصريح العبارة انها بشوشة الوجه وهنية المراس، معتبرة انها كانت مصيبة في اختيارها عندما انتقت صورتها من بين عشرات الصور التي عرضت عليها من قبل صاحب مكتب الخدم الذي استقدمها من أثيوبيا مباشرة للعمل لديها، وكأن القدر اراد لها ان تختار قاتلتها.

لم تكن تدري الحاجة مهى اول ايام عيد الأضحى المبارك ما كانت تضمره لها خادمتها وتتحضر لتنفيذه يوم العيد،  بل كانت منهمكة في توزيع المساعدات من مواد غذائية ومأكولات وكساء  على الفقراء والمحتاجين، مع الأضاحي التي كان زوجها يشرف على ذبحها لتقسيمها حصصا متساوية لتوزيعها ثاني ايام العيد .

دخلت الحاجة مهى الى غرفة نومها مساء واقفلت باب الغرفة، بعد أن حضّرت للعاملة الجديدة وجبة عشائها، حفاظا على خصوصيتها واحتشاما وفق قناعاتها الدينية لاعتقادها الديني ان جسد المرء له حرمة ولا يجوز كشفه الا امام المحارم، اي الابوين والابناء والزوج. 

حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف 

وبينما كان زوجها يستربح ليلا في منزل والديه، لينتقل بعيد منتصف الليل الى المسلخ في البقاع ليشرف على ذبح الاضحيات من عجول وخرفان باكرا اعتبارا من الساعة الثانية صباحا،  وحوالي الساعة الرابعة صباحا قرا رسالة صوتية وردته من زوجته الحاجة مهى الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا، تقول له إن الخادمة تتصرف على نحو مريب، بحيث انها تدعي انها اسقطت من يدها هاتفها من على الشرفة، علما انها فؤ اليوم السابق زعمت انها اسقطت منشفة تستعملها لتنظيف الزجاج، والتي لم يعثر عليهما ناطور المبنى، وابلغته انها تخشى عليها من ايذاء نفسها او رمي نفسها من على الشرفة، عارضة على زوجها العمل على نقل الخادمة صباح اليوم التالي الى المكتب للوقوف على حالها، واستيضاحها حول تصرفاتها المثيرة للريبة.

هذه الرسالة لم تثر استغراب الزوج، معتبرا ان الامر لا يعدو كونه نابعا عن عدم قدرة فهم ما تقوله العاملة كونها لا تحسن اللغة العربية او الانكليزية، ولكنه صباح اليوم التالي حاول الاتصال باكرا بزوجته هاتفيا لعدة مرات الا انها لم تجب على الهاتف ما دعاه للقلق فاتصل  بناطور المبنى طالبا منه تكليف زوجته الصعود الى منزله وابلاغ زوجته للانصال به او الاجابة على الهاتف، ولكن زوجة الناطور بعد ان صعدت الى الشقة لم تشعر بالارتياح عندما المحت لها الخادمة بالاشارات  والكلام المبهم ان ربة المنزل نائمة وباب غرفتها مقفل ولا تستطيع التحدث اليها، وعادت الى زوجها طالبة منه ابلاغ صاحب المنزل بضرورة الحضور الى منزله لان تصرفات الخادمة تدعو للقلق.

فور ابلاغه بالامر توجه صاحب المنزل الحاج م.د. مسرعا الى منزله، وفور دخوله المنزل شاهد الخادمة تجلس على كرسي في مدخل الشقة وبجانبها مفتاح باب المنزل وتتظاهر بالبكاء، وبمجرد دخوله الى غرفة النوم شاهد زوجته ممدة وهي مخضبة بالدماء.  هاله المنظر فعاد الى مدخل المبنى مسرعا طالبا من الناطور وزوجته وصديق له كان يصطحبه بالصعود معه ليروا ما ينبغي القيام به، لاسعاف زوجته التي لم يكن يعلم انها قد فارقت الحياة قبل وصوله اليها.

الخادمة كانت متماسكة وكأن شيئا لم يحصل، وكأن الأمر لا يعنيها، رغم ان كل شيء في غرفة النوم يوحي بان معركة حقيقية وعراكا شديدا حصل داخل غرفة النوم، ولكن من دون وجود اية مؤشرات او دلائل الى ان شخصا غريبا دخل الشقة، ولكن امرا غريبا يدعو للتساؤل :لما لم تغادر العاملة المنزل بعد ارتكابها الجرينة؟ وهل كانت بانتظار احد ليقلها الى مكان آخر؟ وهل هناك من عاونها على ارتكاب الجريمة؟ كلها أسئلة تطرح ذاتها، وتدعو المحققين للتساؤل حولها وكشف أغوارها.

أقرت الخادمة بهدوء وامام مندوب عن سفارتها ومترجم أحضره المندوب كيف حضَّرت وارتكبت جريمتها بدم بارد، حيث عمدت في اليوم السابق  الى ابلاغ ربة المنزل انها اسقطت من على شرفة المنزل منشفة تستعملها في تنظيف الزجاج، ولكنها اجابتها صاحبة المنزل  بالا تقلق ستحضر بدلا منها، وعاودت الكرة في اليوم التالي وفي وقت متاخر من ليلة اول ايام عيد الأضحى زاعمة أنها اسقطت هاتفها ملحة على ربة المنزل للخروج من غرفتها الى الشرفة لتريها اين سقط الهاتف، ولكنها لم تستجب بادئ الامر ولم تفتح لها باب غرفتها مكتفية باتصال بناطور المبنى طالبة منه البحث عن الهاتف، ولكنه اجابها انه لا يوجد اي شيء سقط من على شرفة المنزل، ويبدو ان هذا اللغط  دفع بالحاجة مهى للارتياب والخشية على الخادمة من أن تؤذي نفسها او تلقي بنفسها من على الشرفة فابلغت زوجها بالامر عارضة عليه ضرورة اخذ الخادمة الى مكتب الخدم  في صباح اليوم التالي.

استمرت الخادمة ملحة على ربة المنزل  بأنها ترغب في التحدث اليها الى ان استجابت  وفتحت باب غرفة النوم المؤدي الى الشرفة، وما ان فتحت الباب لتفاجئها بضربة على رأسها بعصا الممسحة فتنكسر وتكرر الضربات الى ان اسقطتها ارضا تحت وطاة الضربات المتلاحقة التي كادت تفقدها وعيها، عندها اسرعت الخادمة الى المطبخ محضرة سكينين متينين ذوات قارب خشبي.  حاولت ربة المنزل الهروب منها إلا انها طعنتها  باحدى السكينين في عنقها أسفل اذنها اليسرى حيث الأوردة والشرايين التي تغذي الدماغ، فاسقطتها ارضا، ولم تكتف بذلك، إنما عمدت الى الامساك بشاحن الهاتف لتلف شريطه حول عنق ضحيتها وتستمر بخنقها الى ان تاكدت من أنها لفظت آخر أنفاسها، لتتفرغ بعد ذلك الى جمع المصاغ الذي كانت تضعه المغدورة على طاولة صغيرة بجانبها، وانتزاع ما تبقى بحوزتها كخاتم الزواج وحلقات الاذن.

وبعد ان انهت فعلتها أقدمت العاملة على الاغتسال وغسل ثيابها المليئة بالدماء لإزالة آثار الدماء عنها ونشرتها على حبل الغسيل، كما عمدت الى غسل السكينين، وشريط الكهرباء الذي انقطع بينما كانت تشده على عنق الضحية وتضعه داخل كيس القمامة الذي وضعته امام باب الشقة، ومن ثم وضَّبت ملابسها وامتعتها في حقيبتها، ولفَّت المصاغ بفردة جوارب وخبأتها داخل حذائها تمهيدا للهرب،  الا انها كانت تحاول العُثور على مزيد من الاموال وجواز سفرها. ولكن حساباتها لم تكن دقيقة اذ فوجئت بعودة رب المنزل فجاة الى المنزل ليكتشف جريمتها المروعة. 

نسرد هذه القضية لا لمجرد سرد حادث مؤلم ومفجع لوالديها وزوجها وشقيقاتها الذين فقدوا شقيقا وحيدا (دكتور فادي) منذ حوالي العام ونصف العام بمرض عضال اختطفه سريعا من بين أهله ومحبيه واطفاله اليافعين، لتأتي هذه الفاجعة لتزيد عليهم جميعا غما بعد غم وحزنا على حزن. 

ما كان لهذا الاجرام أن يتفشى لولا شعور المجرمين ومن تُسوِّل لهم انفسهم انتهاك الحرمات، وإزهاق الارواح أن الدولة اللبنانية غائبة عن السمع، ومتهاونة في التصدي لمختلف الظواهر الإجرامية، ولولا مغالاتها في التساهل مع المجرمين والمحكومين والمبالغة في تخفيض الأحكام المنطوق بها وامتناعها من دون موجب عن تنفيذ الاحكام القاضية  بالاعدام بحق المجرمين الخطرين الصادرة بحقهم، 

وكأننا بالدولة والمسؤولين فيها يسعون الى تكريس شرعة الغاب، بتعطيلهم القوانين الجزائية النافذة والعمل على خلاف روحيتها ومقاصد المشرع الذي توخى تحقيق العدالة وردع المجرمين عن التمادي في إجرامهم، وثني من تسول لهم أنفسهم ارتكاب جرائم شنيعة.

إننا وإذ نشكر قوى الامن الداخلي على الجهود التي تبذلها في كشف الجرائم، والسرعة التي كشفت فيها ملابسات قتل المغدورة الحاجة مهى حسون، ونتوجه بالشكر للنيابة العامة في بيروت التي تابعت إجراءات التحقيق الذي أجري في كل من فصيلة طريق الشام بإشراف  قائد سرية بيروت الاقليمية الثالثة وفي مفرزة بيروت القضائية بإشراف آمرها، والذي تكلل بادعاء النيابة العامة مواد تتناسب مع طبيعة الجريمة والظروف التي ارتكبت فيها ومعاناة الضحية قبل وفاتها، نؤكد على أهمية الاسراع في اتمام الإجراءت المهيئة للمحاكمة، واحالة الملف سريعا الى محكمة الجنايات للفصل فيها بأقرب وقت، وتنفيذ الحكم الذي سيصدر بحق الجانية والتي نتمنى ان تنطق بعقوبة الأعدام بحقها وبما يتلاءم مع فظاعة ما اقترفت، وذلك  لكي يشعر ذوو الضحية وعموم الشعب اللبناني، أن العدالة غير مغيَّبة عن قصد او اهمال، وليثبت الجهاز القضائي فعاليته وحضوره وانه على استعداد دائم للقيام بواجباته واخيرا لنتفادى عمليات قتل ثأرية قد تدفع بذوي الضحايا لاستيفاء حقهم بالذات والاقتصاص من المجرم، كما هو الدافع في جريمة يوم امس.

بيروت في الاول من آب عام ٢٠٢١

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى