سياسةمحليات لبنانية

رأي في مواقف القوى السياسية: افلاس ام جولة في حرب؟

 

د. طارق عبود* -الحوارنيوز خاص
في المثل المغربي يقال إنّ النملة حين يريد لها الرب العذاب،يمنحها أجنحة،بالإذن من المفكّر المغربي إدريس هاني.
ما يحصل منذ السابع عشر من تشرين الأول من العام 2019 يشير إلى تفاقم الأزمة البنيوية للنظام اللبناني الذي يصارع اليوم للبقاء على قيد الحياة.
بعد خروج الجيش السوري من لبنان نبتت للطبقة السياسية أجنحة أسهمت في ضياعها،وهي ما زالت منذ ذلك الحين تعاني العذاب والوحشة، لأنها لم تنضج بعد لتتكّل على نفسها،وتقود البلد من دون وصاية خارجية.
  ومن المعروف أيضًا، وبمجرّد  إشراف مؤسسة أو شركةً على الإفلاس، فإنّ الخلافات تدبُّ بين الشركاء،ويُظهر كل طرف ما كان مخبّأً في درجه أو في صدره، لا فرق، ولكنه عمل على مداراة الآخرين مخافة انفراط عقد الشراكة التي يستفيد منها الجميع، ولكن، بما أنّ الأمل أصبح معدومًا من إمكانية المعالجة للشركة أو في قيامتها ،فإنّ كل طرف أخذ قراره بإنقاذ نفسه،ورمي المسؤولية على الآخر.
  لذلك لم يكن مستغربًا اليوم، بعد انفجار الرابع من آب أن يشهد اللبنانيون هذه المواقف القاسية من الذين يُفترض أنهم شركاء.
الحلفاء ينأون بأنفسهم
بعد اشتداد الأزمة،وسماع صوت الريح يقرع الأبواب، أراد الوزير جبران باسيل إظهار تمايزه عن حزب الله، حليفه وشريكه الوحيد في لبنان منذ العام ٢٠٠٦ إثر اتفاق مار مخايل، وأسهب في مؤتمر صحفي منذ أيام، وبالصوت والصورة وحركات الجسد، في التأكيد أنه يتمايز عنه، في موقفه الإيجابي من الحياد، ومن التوقيع الثالث الذي يؤدي إلى المثالثة التي يرفضها بشكل نطلق كما قال. ومن الترسيم العادل، ومن رفض زيارة إسماعيل هنية،وما حدث خلالها، وهو يسعى بشكل واضح إلى محاولة النفاذ من العقوبات الأميركية التي تطرق بابه بقوة،فأراد الوقوف على التلّة حاليًا لمراقبة الأوضاع.وهو "زهِد" بكل الوزارات،وأرسل إشارات واضحة أنه ليس بوارد عرقلة المبادرة الفرنسية.
الرئيس سعد الحريري ينقلب على صديقه وعرّابه في الحكومات السابقة، والأكثر تمسكًا به، الرئيس نبيه بري، وأراد أن يقطع معه شعرة معاوية لأسباب عديدة يعرفها الطرفان جيدًا. وهو يبذل جهدًا كبيرًا اليوم  للانتقام من شريكيه في التسوية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والوزير باسيل، ويعمل لإفشال ما تبقى من العهد حتى لو كان ذلك على حساب البلد والناس، وفي الوقت نفسه يقطع علاقته مع سمير جعجع كونه يعتبره الأكثر إسهامًا في الطعنات في جسده المثخن.
الوزير السابق وليد جنبلاط يشدّ الرحال إلى عاصمة العطور في فرنسا، علّه يبقى بالقرب من صديقه برنارد إيميه، كي لا يبقى بعيدًا عن مركز القرار الجديد.
الرئيس ميشال عون يريد تهدئة الأجواء الداخلية بعد الحملة الكبيرة عليه بعد السابع عشر من تشرين، وفي أعقاب انفجار المرفأ، وهو يأمل أن تنقذ المبادرة الفرنسية العهد الذي انقضى أكثره،ولم يحقق إنجازات مهمة.
هل يخدع الأميركيون الفرنسيين؟
حشر  الفرنسيون أنفسهم في وضع حرج، لأنهم أخطأوا بالأسلوب الذي قاربوا فيه تشكيل الحكومة. والبداية كانت  من خلال التراجع عن المطلب الفرنسي في حكومة وحدة وطنية، إلى حكومة اختصاصيين حيادية. إدارة ترامب ليست بعيدةً عن مشهد العرقلة. ترامب الذي يعيش حالة هستيريا مرضية خوفًا من خسارته الانتخابات، مستعد أن يحرق العالم ومن ضمنه أميركا إذا شعر أنّ خروجه من البيت الأبيض أصبح قريبًا. فهو ليس بريئًا عن وضع العوائق أمام الفرنسيين.
ووأخطأ الفرنسي أيضًا عندما منح الرئيس المكلّف،ومن خلفه رؤساء الحكومة السابقين كل هذه الصلاحيات،في تسمية الوزراء، وفي توزيع الحقائب عليها، وبالتالي التشفّي من الثنائي الشيعي بهذه الطريقة الفجّة،عبر دفعهم عنوةً خارج الحكومة،واستفزازهم بهذه الطريقة. وهل يقاتل الأميركي برؤساء الحكومة السابقين؟ والرئيس ماكرون لا يعلم،وهل تتحمل الإليزيه إخفاقًا سريعًا بهذا الشكل،في منطقة مشتعلة سياسيًا واقتصاديًا ونفطيًا؟ ومن المسؤول عن فشله؟
ثمة أسئلة كثيرة تُطرح في هذا السياق منها: عن المساحة التي منحها الأميركيون للفرنسين للملمة الوضع اللبناني،وعن العقوبات على وزيرين من الثامن من آذار في هذا التوقيت، في ذروة عملية التشكيل.  وعن هجوم من وزير الخارجية الأميركي مايك پومپبو على تواصل الرئيس ماكرون مع الحاج محمد رعد، وعبر صفحات صحيفة فرنسية، وعن حقيقة رغبة الأميركيين في حكومة حاليًا . أم أنهم خدعوا الرئيس ماكرون وأغرقوه في الرمال المتحركة اللبنانية؟
ماذا عن الأطراف الأخرى؟
من الواضح أنّ الأطراف جميعها تعاني من المشاكل.
رؤساء الحكومة السابقون مأزومون لأنّ لعبتهم انكشفت. وأصبح واضحًا أنهم ينفّذون رغبات الأميركي التي ليست بعيدة عن رغباتهم. فكبّلوا الرئيس المكلّف،ووضعوا شروطهم المفخخة في جيبه، وأرادوا أن ينتقموا عبره من الآخرين، وهم بالتالي أدخلوا أصابعهم في وكر الدبابير،بحيث طفا الحديث بقوة مجددًا عن تفرّد مكوّن طائفي في تأليف الحكومات، وفي الاستقالة، وفي السلطة التنفيذية،وفي كثير من مراكز الفئة الأولى.وهو حديث لن يخفت بسرعة عن استحالة الاستمرار بنظام الطائف بالشكل الحالي،وضرورة تغييره. وما يحدث اليوم ليس تفصيلًا.
الثنائي الشيعي ليس أقلّ معاناةً،   لأنّ حجّته في الدفاع عن وزارة المالية والتوقيع الثالث ليست متينة، طالما أنه تخلى عن هذه الوزارة، وعن التوقيع الثالث منذ العام 1992 إلى العام 2010 كما يقول خصومه،فلماذا الإصرار عليه اليوم؟ وفي حال فشلت المباردة الفرنسية، فإنّه سيتحمّل منفردًا مسؤولية إدامة الفراغ،وبالتالي سيحمل على عاتقه مسؤولية الانهيار الاقتصادي، والأزمة الاجتماعية الخانقة،مع وجود ماكينة إعلامية ضخمة في الطرف الآخر تغذّي هذا الرأي، لشيطنة الحزب ،وتعمل عليه ليل نهار. والحزب يريد في مكان ما تسهيل عمل المبادرة الفرنسية، لتخفيف الضغط الأميركي عن البلد، وإنعاش الوضع الاقتصادي والضائقة المالية، الى حين تبلور المشهد الانتخابي الأميركي بعد حوالي الخمسين يومًا، وفي مكان آخر يريد التمسك بوزارة المال بالشراكة مع حركة أمل لشعوره بالاستهداف الممنهج من الأميركيين عن طريق حلفائهم في الداخل،ولا يريد تكريس الهيمنة في تشكيل الحكومات.
وماذا عن الرئيس بري؟
يعيش الرئيس بري هذه الأيام حالة استغراب شديدة ،ويفكّر بمغزى الرسائل المتتالية التي وصلته بكثافة في زمن قياسي،ومنها:
١- العدائية الكبيرة من الرئيس سعد الحريري الذي احتضنه بري في كل السنوات الماضية، وعمل على حماية جماعته في الإدارات اللبنانية. بل إنه دفع بقوّة إلى اسقاط حكومة الرئيس حسان دياب من أجل إعادة الحريري إلى السراي الكبير . ولكن هل يسعى الحريري إلى إعادة ترتيب علاقته مع السعودية من خلال الهجوم على الرئيس بري وتهميش دوره وحرمانه من حقيبة المالية.
الواضح أنّ موقف الحريري ليس معزولًا عن موقف رؤساء الحكومة السابقين والموقف الأميركي،وتقديم أوراق اعتماد جديدة للسعوديين.
٢- تعاطي الرئيس المكلّف الذي تعمّد تجاهل الرئاسة الثانية في عملية التأليف كليًا.
٣_ البند الأهم في المشهد يتعلق بالعقوبات الأميركية على المعاون اللصيق بالرئيس بري الوزير علي حسن خليل، فهل كانت هذه رسالة أميركية فرنسية مشتركة بالتخلي عن خدمات رئيس المجلس، وتهديده بالعقوبات أيضًا في حال عرقلته للورقة الفرنسية؟
في الجانب الآخر يسأل البعض  ماذا كان يقصد الرئيس بري عندما أوفد النائب المغمور وغير المعروف إبراهيم عازار إلى قصر الصنوبر، ولم يوفد معاونه السياسي الوزير علي حسن خليل؟ وهل هو محفل ماروني حتى يكون النائب عازار هو ممثل الكتلة؟ أم أنّ الرئيس بري شعر بالاستهداف منذ ما قبل زيارتي ماكرون، أم وصلته معلومات لها علاقة بالأمر؟فأراد من خلال ذلك إيصال رسالة من طرفه أيضًا؟
ولكن، هل استطاع الطرفان تحييد الرئيس بري وتهميشه؟
بالنتيجة، لقد خسر الفرنسيون ومن خلفهم الأميركيون هذه الجولة معه، بعدما استخدم الرئيس بري الهجوم وسيلة للدفاع عبر رفع السقف عاليًا، وتهديده بعرقلة المسعى الفرنسي، وبالتالي فرملة تشكيل الحكومة في حال أكملوا التعاطي معه بهذه الطريقة.
أما الرئيس المكلّف فها هو يغرق في الرمال اللبنانية، ولا يجد وسيلةً غير الغرف من معجمه الإيماني، بالتوكل على الله والدعاء لتذليل العقبات، وهو الذي أقفل على نفسه القفص ورمى بالمفتاح خارجًا، وأصرّ على عدم التواصل مع الكتل التي سمّته، وأدار أذنه إلى نادي رؤساء الحكومة السابقين، الذين أصعدوه إلى أعلى الشجرة، وفتحوا معركةً من خلاله مع الثنائي الشيعي، وحاولوا فرض حكومة أمر واقع، معتمدين على الضغط الفرنسي على القوى السياسية. ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة بناءً على طلب فرنسي أيضًا. ولم يعد باستطاعته التراجع أكثر، لالتزامه مع الرئيس الحريري ورؤساء الحكومات السابقين، وأي خطوة الى الوراء ستعتبر رضوخًا للثنائي الشيعي، وكسرًا لهيبته، كما قالوا له.
الخلاصة
البلد مأزوم، وأركان النظام اللبناني فشلوا في إدارته، حتى وصل لبنان إلى الانهيار. ما زال جزء وازن من الطبقة السياسية يكابر. الحلول قليلة، وأفضلها سيضع ملحًا كثيرًا على جراحات المواطن اللبناني المفتوحة.
فهل سيقع الانهيار الكامل، ومن يريده ويدفع إليه، وبالتالي فتح الباب لدخول لبنان في دوامة الفوضى والعنف؟ أم ينجح الفرنسيون حاليًا بإنعاش الوضع، بانتظار التسوية الإقليمية بعد الانتخابات الأميركية، فيجمع الفرنسيون اللبنانيين في باريس للاتفاق على عقد اجتماعي جديد، بعدما أصاب هذا النظام الاهتراء والشيخوخة،وأصبح ولّادًا للمشاكل والأزمات؟ أم أنّ للأميركيين رأيًا آخر؟
*استاذ جامعي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى