سياسةمحليات لبنانية

خارطة طريق نحو دولة مدنية

 

النائب محمد خواجة*

حلّت الذكرى المئوية لولادة الكيان، واللبنانيون يئنون تحت وطأة أثقال أزمات استعصائية، زلزلت مناحي حياتهم الخاصة والعامة. مئويةٌ حفلت مطوياتها العقدية بالتوترات والاضطرابات والاحترابات الأهلية، وإن تخللتها هدنٌ من حين لآخر. ولم يكن ينقصهم سوى تفشي جائحة كورونا، والانفجار المدمر الذي ترنحت جراء عصفه بيروت وضواحيها، متسبّباً بخسائر فادحة، وضعت لبنان كياناً ودولة ومجتمعاً على قارعة استجداء النجدات والمساعدات، وشرّعت أبوابه المخلّعة أصلاً، لشتى التدخلات الأجنبية، وإن غُلّفت بعناوين إنسانية.

قضى انفجار الرابع من آب على آخر حيويات النظام الطائفي، الحاكم لحياتنا منذ ما قبل عهد المتصرفية،  إذ تكشّف عشية ذاك اليوم الرهيب، قاع جبل جليد الفساد والتسيّب والفشل؛ فشعر اللبنانيون أنهم متروكون لقدرهم. وبين خبايا ذاك النظام ، تفشت ظواهر الفساد والرشى والمحاصّة ونهب المال العام ومدخرات اللبنانيين الذين لامس أغلبهم الأعم خط البطالة والفقر والعوز. ولم يعد ينشد شبابهم سوى الفراق والهجرة سبيلاً للنجاة.

كما أسهم النظام الطائفي في تعطيل المؤسسات ومذهبتها، وإضعاف سلطة القانون، والعجز عن محاسبة المرتكبين والفاسدين. وحال طوال مئة عام، دون استيلاد هوية وطنية، بديلة عن الهويات الفرعية للمكونات الطائفية والمذهبية المعقودة الولاء للخارج. مكونات حكمت علاقاتها البينية معادلة زهو الغلبة وغبنها، فمن استشعر منها يوماً بوهم القوة، سعى لصرفها في تحسين الشروط وهكذا دواليك. ما وضع البلاد في حال اهتزاز دائم. تلك المثالب والممارسات الشائنة، فضلاً عن نقاط الضعف البنيوية، كانت ولا تزال تتسبب عند كل منعطف أو استحقاق أكان إقليمياً أم محلياً، بأزمة كيانية تتهدّد لبنان في أساس وجوده.

إن وظيفة النظم السياسية عادةً، تسيير شؤون مجتمعاتها، وضمان الآمان والاستقرار فيها، واجتراح الحلول لتجاوز ما يعترض مساراتها من مطبات وعقبات. ولذا، اتسمت طبيعتها بالمرونة والدينامية والقابلية المستدامة للتطوير والتحديث. هذه السمات لا تنطبق قطعاً، على نظامنا الطائفي الولاّد بطبيعته للأزمات والمعطّل للحياة العامة، بحيث لم يعد اللبنانيون قادرين على تخطي خلافاتهم تجاه أي مسألة، بدءاً من تشكيل حكومة وليس انتهاءً بمأموري أحراج. ورغم موته السريري، وجد من ينافح عنه وإن مواربةً، من لصوص الهيكل وتجار الطائفية والفتن.

أمام كارثية هذه المشهدية نتساءل، ألا تزال لدينا فرصة للخروج من النفق المظلم؟ وكيف يُمكن البراء من أمراض الطائفية والمذهبية المتأصلة؟ وهل من سبل خلاص للبنانيين الحالمين بوطن ودولة عصرية؟ ولماذا الإصرار على الدولة المدنية بديلاً؟ وهلا يستقيم ذلك في هذا التوقيت الحرج؟

رغم ما يختزنه الوضع القائم من إحباطات ومرارات، نعتقد أن اللحظة الراهنة مؤاتية لولوج طريق التغيير وطرح البدائل، وأولها وأساسها الدولة المدنية. وفي الآونة الأخيرة إتسعت مروحة المنادين بها من مسؤوليين رسميين وأحزاب وتيارات سياسية…

هذا التطور النوعي، يجب ألا يجعلنا نقع في فخ التبسيط والاستسهال؛ فالانفكاك عن شرانق الحالة الطائفية والتحرر من شرورها، دونه تعقيدات ومخاضات. لذلك، تحتاج مقاربتها إلى التبصر والتأني، لأنها ليست ظاهرة عرضية بل متجذّرة، منذ أمد طويل، في الوعي والسلوك الجمعيين لدى شرائح واسعة من اللبنانيين. وباتت حاضرة بقوة في يومياتهم ومعاشهم، ولا يمكن إلغاؤها برزمة قرارات وإجراءات مهما بلغت أهميتها؛ بل بالسعي الدؤوب لإنضاج حالة وطنية، مرتكزها هوية جامعة، تطمئن المتوجسين بأن خلاصهم الفردي والمجتمعي، يكمن في انتقالهم من رعايا طوائف إلى مواطنين أحرار في ظلال دولة مدنية.

وثمّة من يسأل، عن أي دولة مدنية تتحدثون؛ فهي متعددة الأشكال والأنماط، ويختلف إنموذجها من بلد لآخر؟ هذا التساؤل المحقّ، يستوجب تعريف الدولة التي ننشد، وتحديد ماهيتها وسماتها العامة والخاصة؛ فمن سماتها العامة، المواطنة والديموقراطية وتداول السلطة والمساواة وحرية الاعتقاد والتعبير وحقوق الإنسان واستقلالية القضاء والرعاية المجتمعية بكافة أشكالها… هذه المفاهيم السياسية – القيمية ليست موضع خلاف بين اللبنانيين، ومعظمها منصوص عنها في مقدمة دستورنا، بوصفه دستوراً مدنياً في مبانيه الأساسية، لكنه مكبلاً بالقليل القليل من المواد، والكثير الكثير من الأعراف الطائفية والمذهبية التي تقوّض مدنيته. هذه الأعراف هي من يتحكم فعلياً بمسار الانتظام العام، وتوزع السلطات والمواقع الوظيفية في الدولة. وبرهنت التجارب العملية، أن بالإمكان تعديل مادة دستورية في لبنان، لكن من المحرّمات المسّ بعُرف معمول به، في دلالة واضحة على مدى قوة العرف، وسطوة ملوك الطوائف ونفوذهم داخل أروقة السلطة. وألف باء التغيير هنا، يبدأ بتطبيق مندرجات إتفاق الطائف، وبالأخص البنود الإصلاحية منها.

أما السمات الخاصة فمرتبطة بتكوين بنية مجتمعنا وتاريخية تشكّله وخصائصه وتعقيداته، ويمكن مقاربة تلك السمات بفتح فضاء الحوار حولها لتحديدها وعنونتها، لا سيما المسائل الإشكالية منها، للبحث عن حلول إبداعية لها، لكي لا تكون عائقاً أمام محاولة التفلت من براثن النظام الطائفي. ونجد في مقولة الإمام موسى الصدر «إن تعدد الطوائف نعمة والطائفية نقمة» إطاراً تعريفياً  يسمُ ماهية الدولة المدنية المنشودة بخصائص لبنانية. أي دولة متصالحة مع الطوائف كمكوّنات غنى وتنوع حضاري، نابذة للطائفية كعنصر توتر وإعاقة لتطور حياتنا العامة.

أما عن طرائق بلوغ تلك الغاية، فنرى في قانون الانتخاب معبراً أساسياً، وفي السياق، يأتي اقتراح القانون المقدم من كتلة التنمية والتحرير، الناصّ على انتخاب كل من مجلسَيْ النواب والشيوخ بالتساوي والتزامن. وتجري عملية انتخاب أعضاء المجلس النيابي خارج القيد الطائفي، فيما يتم انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ على أساس طائفي، بحيث تنتخب كل طائفة ممثليها، وفاقاً للمادة 22 من الدستور. ويُلحظ التوزع المناطقي في عمليتي الانتخاب كلتيهما.

والقانون المقترح من قبلنا، يعتمد النسبية والدائرة الوطنية الكبرى. الأولى، لضمان عدالة التمثيل كونها تُتيح لأي قوة سياسية ذات حيثية شعبية ولو متواضعة، إمكانية دخول الندوة النيابية. أما الثانية، فهي بيت القصيد، وفلسفتها:
1 – إبطال فاعلية سلاح المال والعصبية اللذين لطالما وُسمت بهما الانتخابات النيابية في لبنان.

2 – يصبح النائب المنتخب ممثلاً فعلياً للأمة جمعاء (المادة 27) بينما اليوم يقتصر تمثيله على مواطني الدائرة الجغرافية التي انتخبته. عندها، يتحرر النائب من دور مُقدم الخدمات، ويتفرغ لأداء وظيفته الحقيقية في مجالات التشريع والمراقبة والمحاسبة.

3 – الارتقاء بالخطاب السياسي للأحزاب والمرشحين، بما يتعدى منطوق الحزب والطائفة والمنطقة، ما يساعد مع مرور الوقت، على تشكّل حالة وطنية راسخة.
4 – تطوير الحياة السياسية والحزبية؛ لأن الدائرة الوطنية تفرض على الأحزاب التحرر من قوقعتها الطائفية والجهوية، وإفراد أجنحتها لتغطي مساحة الوطن. هذه النقلة النوعية ستسرع حكماً، في ولادة قانون أحزاب عصري، بديلاً عن قانون الجمعيات العثماني المعمول به منذ العام 1909.

5 – تسهم الدائرة الوطنية في تحقيق الإنماء المتوازن، كما ورد في فقرة (ز) من مقدمة الدستور، وذلك بإعطاء النواب الأولوية لسنّ القوانين الضرورية لنهوض المناطق الأكثر حرماناً وتهميشاً، لكي تتساوى مع نظيراتها من المناطق اللبنانية. ولتسريع عملية الإنماء المتوازن، يجب تطبيق اللامركزية الإدارية (إتفاق الطائف) لإنعاش الأرياف وتخفيف الضغط عن المدن الكبرى.

لقد أفردنا مساحة لشرح مقاصد إصرارنا على اعتماد النسبية والدائرة الوطنية الكبرى، وذلك لتبيان أهمية طبيعة قانون الانتخاب، ليس فقط لتحديد أحجام القوى السياسية انتخابياً وشعبياً، وأنما لمركزية دوره في تطوير النظام السياسي وتحديث البلاد.

لا ضير هنا، من مرحلة انتقالية محددة زمنياً، كالإبقاء على القيد الطائفي أو اعتماد المحافظات الخمس، لدورة انتخابية واحدة وأخيرة، ريثما يتمرّس مجلس الشيوخ في أداء مهامه ، بموازاة تخفف السلوكيات الطائفية في المجتمع.  ومشروط المضي بهذا الاستثناء توافق اللبنانيين على ذلك، وأن تكون مرحلة تمهيد للدولة المدنية، تُنجز خلالها حزمة إصلاحات باتت أكثر من ملحة، وفي مقدمها: تحرير القضاء من قبضة السياسة والفساد؛ فمن دون قضاء مستقل وفاعل ونزيه (المادة 20) لا يمكن إطلاق عجلة الإصلاح، وبناء إدارة عصرية، وتفعيل دور المؤسسات الرقابية، وتكريس مبدأ الثواب والعقاب. ويجب استثمار المرحلة التمهيدية، لتثبيت قواعد الاختيار والتعيين في كل المناصب والمواقع السياسية والإدارية، وفاقاً لمعايير الجدارة العلمية والكفاءة والخبرة والنزاهة، إنفاذاً للمادة 12 الدستورية. وأن تقتصر طائفية الوظيفة على موظفي الفئة الأولى من دون غيرهم، تطبيقاً للمادة 95 من الدستور.

ما تقدم من إضاءة متواضعة على طبيعة الدولة المدنية وسماتها، والدوافع الموضوعية للمضي بها قُدماً، يُمكن اعتباره مادة مفتاحية لإطلاق ورشات حوار ونقاش آن أوانها، تنخرط فيها نخب فكرية ومجتمعية وحزبية، ونقابات ومنتديات سياسية وقانونية وثقافية وإعلامية… للتفكير سوياً والبحث عن أفضل سبل الخروج من المستنقع الطائفي نحو رحاب وطن يُفاخر أبناؤنا بالانتماء إليه.

*نائب في البرلمان اللبناني. عضو كتلة "التنمية والتحرير" النيابية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى