منوعات

ذكريات أوراقي القديمة: عن أخي والخط العربي

 


بسام العنداري
عند مجيئي إلى لندن سنة 1994 مكثت مدة عند أخي بهيج عنداري الذي كانت له عليّ أفضال كثيرة منها تحسين ذائقتي ومهارتي في الخط العربي.
كان بهيج، رحمه الله، ذائع الصيت آنذاك في أوساط عشاق الخط العربي وفي الأوساط الصحفية. فهو بدأ حياته خطاطاً يزين بريشته صفحات صحف لبنانية (كمجلة “الحوادث” في عهد مؤسسها سليم اللوزي) وبعض كبريات الصحف العربية قبل عصر الكمبيوتر، وأنهاها بتصميم وتنفيذ بعض أجمل حروف الطباعة التي استخدمتها الصحف لاحقاً عندما احتل الكمبيوتر مساحة خسرها الخطاطون.
ومن أشهر تصاميمه الحرف المميز لجريدة الحياة وحروف مجلة المجلة السعودية والسياسة الكويتية والقدس والعربي وغيرها مما تمت قرصنته ليشيع على ما هب ودب من مطبوعات وكتب ولافتات شوارع ومتاجر من أقصى العالم العربي إلى أقصاه.
علمني بهيج تصميم الحروف على الكمبيوتر وكنت أساعده من حين إلى آخر في كتابة ما يكلَّف به من خطوط تقليدية. لهذا السبب عرفني بعض من كانوا يطلبون خطوطه وظلوا لفترة قصيرة بعد وفاته يقصدونني لكتابة الخطوط. ولكن عملي الصحفي لم يترك لي من الوقت ما يكفي لتلبية قصّادي فطويت صفحة احتراف فن أحببته.
من هؤلاء القُصّاد شخصية لم أجتمع بها ولكنني لا أنساها:
ذات يوم رن هاتفي الجوّال من الجيل الذي سبق الشاشة الملوّنة.
كانت على الخط سيدة عرّفت عن نفسها باعتبارها سكرتيرة شخص غير عربي، كان لاسمه مفعول الكافيين في دمي. فهو صاحب أكبر مجموعة للفنون الإسلامية في العالم.
يعني”لقطة” كما يقولون.
قالت السيدة إن الدكتور فلان يستعد لعرض مجموعته الفنية في المتحف البريطاني. وهو يريد إسم المعرض باللغة العربية ليُطبع على لافتات ضخمة ويُعَلق على باب المتحف. فرحت فرحة طفل باختياري لهذا الشرف. كيف لي أن أضيّع فرصة التعرف إلى رجل أعمال وجامع تحف بهذا المستوى. فما بالك وهو يمنحني فرصة تزيين خطي بوابة المتحف البريطاني العريق.
أخذت إسم المعرض ووعدت السيدة بأن أزوّدها بنماذج يختار منها صاحب الفخامة ما أنفذه له بالنوعية المطلوبة للطباعة الدقيقة. وبعد أيام عدت بالنماذج الثلاثة المرفقة. ولأنني لم أُرِد المخاطرة بفقدان زبون كامل الدسم قررت أن أعطيها أرخص سعر ممكن، لأن الصياد الماهر يرمي السمكة الصغيرة طعماً ليلتقط بها السمكة الكبيرة. كان السعر الذي طلبت يعادل أجرة يومَيْ عمل في بي بي سي آنذاك.
لم يطل الأمر بالسكرتيرة الكريمة حتى عادت لتبلغني بأن صاحبنا الذي يصعب تثمين مقتنياته استغلى السعر المطلوب وقرر أن يطبع اسم المعرض على الكمبيوتر!
لم أحزن يومها لأن الزبون طار من يدي. ولكنني حزنت لأن شخصاً ظننت أنه يقتني التحف الفنية الرائعة لأنه يعرف قيمتها الفنية فضل الكمبيوتر عليّ ولم يختر خطاطاً أفضل مني لتلك المهمة.
ليس ما رويت القصة الوحيدة من نوعها لقلة تقدير شخص ما للقيمة الفنية. وإنما ذكرتها لفرادة بطل القصة.
عندما لا يكون المرء ملمّاً بمتطلبات عمل ما يصعب عليه التمييز بين النحاس والذهب وبين القصدير والفضة. والفنان أوالحرفي يعنيه تقدير جهده أكثر مما تعنيه القيمة المادية لعمله.
في سنة 1989 كنت في الإمارات العربية المتحدة. وكان لي صديق يملك أخوه شركة رخام تنفذ مشاريع فخمة في طول البلاد وعرضها. أرشد الصديق أخاه إليّ بعدما علم بمسألة أستطيع المساعدة فيها.
قال الأخ إن هناك مسابقةً مفتوحة لكتابة آية الكرسي لمصلّى يُبنى في قصرٍ قيد البناء لولي العهد آنذاك، الشيخ خليفة بن زايد الذي أصبح رئيساً للإمارات. كان القصر في العين أو قريبا منها على ما أظن. وكان الخط من شروط اختيار الشركة التي ستنفذ المصلّى.
كان المطلوب كتابة آية الكرسي بخط الثلث على طول تسعة وعشرين متراً على ما أذكر. والشركة الفائزة ستحفر الآية على الرخام بشكل دائري وتُذهّبها بالإضافة إلى التزامها أعمالاً أخرى في القصر,
أنهكتني كتابة الآية. فارتفاعها كان قليلاً بالنسبة إلى طولها. وآية الكرسي تكثر فيها حروف الألف واللام، وإمكانية المد فيها ضعيفة. المهم أنني أنجزت العمل مقابل مبلغ زهيد كالعادة وفازت الشركة بالمشروع.
لم أكد أتغلب على نشوتي بهذا الإنجاز حتى جاءني صاحب الشركة يقول إن الإستشاري المشرف على المشروع يريد تعديل الخط. كان التعديل المطلوب هو ثني حروف الألف واللام (طعجها) لتبدو برأيه بخط اليد. غضبت غضبا شديداً وقلت إن هذا لا يجوز فهو يشوه الخط. وخط الثلث تحديدا تشبه ألِفُه بالسيف المستقيم. فكيف تريدني أن أشوه ما حرصت على أن يقترب من الكمال؟
بعد أخذ وردّ وعودة إلى الإستشاري مرتين أو أكثر عاد الرجل وقال: أرجوك “طعوجها” من أجلي. فإن لم تفعل سنخسر المشروع! وبين تمسكي بنوعية عملي وقطع رزق صاحبي اضطررت إلى اختيار الطعوجة وسهرت ليالي وأنا أمحو الخطوط المستقيمة وأستبدلها بالمُعوَجّ كذوق الإستشاري. وكانت مكافأتي أن يصطحبني منفذ المشروع لأرى خطي محفوراً ومذهّباً على الرخام في قصر لن أراه من الداخل مرة أخرى في حياتي. نظرت إلى خطي الممسوخ فكدت لا أعرفه. لم أصوّره ولم أحتفظ منه بذكرى غير ذكرى الإستشاري الأصلع ذي اللحية الخفيفة الذي لا يطيق الإستقامة.
من قُدِّر له أن يصلي في مصلى قصر الشيخ خليفة المذكور فلينظر إلى السقف وليذكرني بالخير في صلاته.
أطلت عليكم
*نقلا عن صفحة الكاتب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى