إقتصاد

قبل أن يسقط الهيكل: حكاية 1992 !

واصف عواضة

الزمان :6 كانون الثاني 1992 الساعة العاشرة ليلا.
اتصل بي وزير المالية الراحل الدكتور علي الخليل:  ماذا تعمل؟
قلت اتناول طعام العشاء في منزلي.
قال: انا في انتظارك في منزلي عندما تكمل عشاءك.
اقفلت سماعة الهاتف ورحت اضرب الحسابات: صحيح ان ما بيني وبين الوزير علي الخليل أكبر من علاقة سياسي ووزير مالية بصحافي ،بل علاقة صداقة متينة عمرها اكثر من عقدين من الزمن منذ انتخابه نائبا في اوائل السبعينات،حيث اسهمنا نحن الشباب في كسر القواعد التقليدية في الانتخابات النيابية، وفرضنا علي الخليل نائبا عن قضاء صور في الندوة البرلمانية .. ولذلك كان التصاقي به وبعائلته أمرا طبيعيا جدا ،لدرجة ان دخولي الى منزله في بيروت وفي صور او مكتبه في الوزارة لا يحتاج الى مواعيد او استئذان .
كل هذا صحيح ،ولكن ما هو الأمر الطارئ الذي يدفع صديقي الوزير الى "استدعائي" في هذه الساعة من الليل؟
حقيقة لم يخطر في بالي السبب الحقيقي لهذا الاستدعاء،على الرغم من الازمة التي يمر بها البلد في ذلك الحين على الصعيد المالي والنقدي والاقتصادي.
دلفت الى منزل الوزير الخليل ،فوجدته وحيدا في المنزل،فاستقبلني في جانب من الصالون. تحدثنا قليلا خارج الموضوع .. ثم انحنى نحوي كأنه يريد ان يهمس في أذني سرا لا يبتغي أن يسمعه أحد:
"كان هناك اجتماع في المقر الرئاسي في السبينس هذا المساء،ضم رئيس الجمهورية الياس الهراوي ورئيس الحكومة عمر كرامي وحاكم مصرف لبنان ميشال الخوري وأنا كوزير للمالية.. "
حتى الآن الأمر طبيعي في هذه الظروف..
استوى الوزير الخليل في مقعده وزفر زفرة لمست في طياتها حجم السر الذي يريد ان يطلعني عليه: " أبلغنا حاكم مصرف لبنان أنه لم يعد قادرا على الدفاع عن الليرة اللبنانية أمام الدولار ،حيث انخفض احتياط مصرف لبنان الى ادنى مستوى (دون المليار دولار) ،وأنه سيعلن ذلك مضطرا على الملأ".
بادرت الوزير قائلا: يعني سيفلت سوق النقد..
قال: طبيعي..
قلت: وهل ثمة حدود معينة للصرف..
قال: لا أحد يضمن ذلك..
قلت: وماذا ستفعلون؟
رد مبتسما: وماذا سنفعل؟ هل لديك حل؟
قلت: انا لا أملك المعطيات التي تملكونها ..
قال: هذه هي معطياتنا.. احتياط مصرف لبنان،وطالما هذا الاحتياط عاجز عن الدفاع عن الليرة ،فلا حول ولا قوة الا بالله.
كان سعر صرف الدولار في ذلك الحين يحوم حول السبعمائة ليرة لبنانية،وسط مضاربة حامية أفقدت مصرف لبنان معظم محفظته من النقد الاجنبي.
في السادس عشر من كانون الثاني،اي بعد عشرة ايام على هذا اللقاء،اعلن مصرف لبنان بيانه الشهير الذي يوحي بعجزه عن الدفاع عن الليرة اللبنانية،وأفلت السوق النقدي على غاربه،وارتفع سعر الدولار في فترة قصيرة

الى أكثر من ثلاثة آلاف ليرة.
خلال الايام العشرة التي سبقت اعلان مصرف لبنان ،استغل من تسرب لهم الخبر من تجار العملة والمصارف والمتمولين الفرصة ،فحولوا مبالغ طائلة من العملة اللبنانية الى الدولار،ومنهم من اقترض من المصارف بطرق شتى بالعملة اللبنانية على اساس سبعمائة ليرة للدولار،واعادها بعد الفلتان على اساس ثلاثة آلاف ليرة للدولار،وحققوا من وراء ذلك ارباحا طائلة.
من منتصف كانون الثاني حتى منتصف أيار ،شهدت الساحة اللبنانية أزمة لم يسبق لها مثيل. اضرابات واحتجاجات وقطع طرق ،انتهت في السادس عشر من أيار بسقوط حكومة عمر كرامي الذي استقال تحت ضغط الشارع. وفي نفس اليوم استدعي الرئيس رشيد الصلح الى دمشق ،وعاد منها رئيسا مكلفا بتشكيل الحكومة،حكومة انتخابات نيابية كانت ايذانا ببداية عهد الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي اعاد الدولار الى السعر الحالي (1500 ليرة) .
قيل الكثير عن تلك المرحلة،وثمة اسرار يعرفها الكثيرون ويحجمون عن البوح بها لأنهم كانو من صناعها. الابرياء وحدهم دفعوا الثمن،مواطنين ومودعين ظلمتهم الأزمة،وبينهم مغتربون لم تسعفهم الظروف في تبديل ودائعهم ،فذهب جنى عمرهم ادراج الرياح.
أما الموظفون والاجراء والمستخدمون فدفعوا الثمن غاليا ،وعاشوا سنوات صعبة قبل ان تعمد الحكومات المتعاقبة الى تعديل الرواتب وتصحيح بعضها.( مثال على ذلك،كان راتبي عندما بدأت العمل في تلفزيون لبنان عام 1983 يوازي نحو الف دولار ،لكنه انحدر الى مستوى ثمانين دولارا في صلب الأزمة).
اليوم يسيطر شبح الازمة في العام 1992 على الناس،وان كانت ظروف البنك المركزي مختلفة عن تلك الحقبة. صحيح ان الليرة اللبنانية عاشت مستقرة طوال ربع قرن من الزمن ،وبات الدولار في جيب المواطنين "عملة وطنية" ولم يتجاوز الحدود المرسومة (1507- 1515 ليرة) لسنوات طويلة،لكن ثمة شيء قد تغير اليوم،وبات للدولار سعران لأول مرة ،سعر رسمي في الحدود السابقة،وسعر في السوق تجاوز امس ال 1600 ليرة. ولهذا الواقع اسباب كثيرة تتردد ،تبدأ من خطط سيدر وماكينزي ولا تنتهي بعمليات تهريب العملة والمواد الاساسية .. وثمة من يهمس بأن الدولار سوف يستقر على سعر صرف جديد لا يتجاوز 1800 ليرة ،استجابة للضغوط المتداولة ،بهدف منع الانهيار الكبير.
ويبقى السؤال الكبير: هل نحن على شفير انهيار شبيه بانهيار التسعينات؟
ثمة من يطمئن بأن المعادلة السائدة اليوم هي: "لا استقرار ولا انهيار". ولهذه المعادلة اسباب كثيرة داخلية وخارجية،لأن الهيكل يسقط على رؤوس الجميع،ومامن أحد يريد الوصول الى هذه الحالة..


 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى