دولياتسياسة

الضابط المدين لحذاء أمه.. الذي صدّ المتظاهرين يوم سقوط جدار برلين(أكرم بزي)

كتب أكرم بزي
راستروبيفيتش كان يعزف في تلك الليلة، ومجموعة من السكارى يتمايلون رقصاً وفرحاً ويقتحمون المراكز الأمنية والثكنات العسكرية الملاصقة لجدار برلين، على أنغام موسيقاه، في مدينة دريسدن، حيث كان الحد الفاصل ما بين برلين الشرقية والغربية… ليلة سقوط الحائط (حائط برلين) بين زمنين وعقيدتين وحلفين، وفي مبنى شتازي (وزارة أمن الدولة في ألمانيا الشرقية) الذي كان يحتوي على أخطر أرشيف أمني وعسكري للضباط الموالين للحكومة الألمانية الشرقية، الذي اختفى واختفت معه حقبة تحتوي على أخطر الأسرار التاريخية.
كان وراء هذا المركز مبنى المخابرات التابع للاتحاد السوفياتي (الـ كي جي بي)، وكان الأعلى رتبة في هذا المبنى ضابط برتبة مقدم، الذي كان يحاول الاتصال بالأعلى رتبة منه لتأمين الحماية للمبنى‘ إلا أن الرد من “اللواء” المسؤول المباشر عنه، “أحاول الاتصال بموسكو ولكن لدي شعور بأن الجماعة قد تخلوا عنّا”، (أي المسؤولين الروس).
اندفع حشد من السكارى المقتحمين كان عددهم تقريباَ 2000 شخص، باتجاه مبنى الـ “كي جي بي”، وكان “المقدم” الأعلى رتبة ومعه 9 ضباط، أعطى الأوامر للضباط بأن يتمترسوا على النوافذ بأسلحتهم الفردية ومنع أي شخص من الاقتراب مهما كانت الظروف.

كان لدى “المقدم” مسدس يحتوي على 8 طلقات فقط، حمل المسدس بيده ونزل لمواجهة المقتحمين، ووقف على المدخل، وعندما وصلوا إليه محاولين الاقتحام تصدى ببرودة أعصاب لهم، فسألوه من أنت؟ فأجاب أنا المترجم، فقالوا له إنك تتكلم الألمانية بطريقة ممتازة، فقال لهم اسمعوا إن انهيار الجدار هو النية الطيبة لدى الاتحاد السوفياتي، وهذا كان مقصد وأحد اهداف الرئيس ميخائيل غورباتشوف (الرئيس الأسبق للاتحاد السوفياتي)، وكلنا نحتفل إلا أن وظيفتي هنا هي حماية هذا المبنى وأي واحد منكم كان ليقوم بوظيفته على أكمل وجه مثلي تماماَ، وأنا هنا أقوم بوظيفتي.  اسمعوا جيداً.. في يدي مسدس يحتوي على 8 طلقات وأنا رام ماهر جداً أستطيع أن أقتل 7 أشخاص والثامنة سأتركها لي أنا، إما ان تذهبوا أو سأقوم بواجبي، واستدار راجعاً نحو أعلى الدرج، حيث كان يتصبب عرقاً، فما كان من الحشود المهاجمة إلا الرجوع والذهاب بعيداً.
إنه المقدم فلاديمير بوتين صاحب الإبتسامة التي تخفي وراءها الأسنان الفولاذية، الذي سيصبح رئيس ثاني أقوى دولة على الكرة الأرضية، “لدكتاتور” و”ملك الرعب النووي”، و”المجنون”، و”القاتل”، بحسب الرئيس الأميركي جو بايدن.  صفات أطلقت على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من قبل الإعلام الغربي، الرجل الذي شغل العالم منذ توليه السلطة في روسيا، بعد استقالة الرئيس بوريس يلتسين.
في إحدى المقابلات التلفزيونية، كنت أشاهد الرئيس الروسي وهو يتحدث عن النفس البشرية، والنزعات الفردية للأِشخاص، وقال، :”إن كل إنسان يرى الأمور من منظاره الشخصي ويحكم عليها، بل عليه أولاً أن ينظر في المرآة، كي يرى نفسه أولاً، ثم يكتشف السوء الذي فيه ويحكم بعدها على الآخرين”. لفتني في هذه المقابلة الطريقة التي يتحدث فيها وكأنه أستاذ فلسفة.

وفي خطابه الشهير “التاريخي”، قبل ليلة واحدة من الهجوم على أوكرانيا، خُيل لي أن المتحدث “شخص متمرد” آت من زمن ستالين، زمن “الحزب البولشفي”، فالإحاطة والموسوعية التي كان يتحدث بها دون الاستعانة بورقة او بآلة تلقين، تشير إلى أن الرجل لديه ثقافة واسعة وخبرة وحنكة مؤدلجة فيها الخليط من المسيحية والماركسية وعلوم الاجتماع وتشبعه بأفكار الفيلسوف الروسي المعاصر ألكسندر دوغين، ولا شك أنه يفهم خصومه بشكل صحيح ويعلم نقاط ضعفهم، وعندما وصف الغرب بأنهم “إمبراطورية الكذب”، قالها عن دراية وخبرة وتجربة، وعلى الأقل تجاربه الشخصية مع أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية.
يقول بوتين: “قبل خمسين عاما، علمتني شوارع لينينغراد قاعدة مفادها أنه إذا لم يكن من المعركة بد، فعليك أن تسدد الضربة الأولى”. ولمن كان لديه تاريخ كـ بوتين، يدرك أن الرجل عاش حياة قاسية، وفي مقال أشبه بالسيرة الذاتية تحدث عن والده فلاديمير بوتين الأب ووالدته ماريا إيفانوفا بوتينا، وروى بالتفاصيل كيف أن حذاءها الذي اشتراه والده لها كان السبب في إنقاذ حياتها لتنجيه بعد 8 سنوات من تلك الحادثة. (إقرأ مقال “لولا حذاء ماريا” للكاتب نفسه).

يعتبر من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في التاريخ المعاصر، فمراكز الدراسات الأميركية والغربية دأبت منذ صعود نجمه الإحاطة بتفاصيل شخصيته إلا أنها بقيت قاصرة عن فهم طبيعة هذا الرجل، الذي يحضن ويروض فيها “النمر” بنفس الحرارة التي يحضن ويروض فيها “الكلب”، هذه الشخصية الفولاذية التي تجيد استغلال اللحظة المناسبة والمكان المناسب لتحقيق أهدافه السياسية والشخصية في آن معاً، وإرسال الرسائل الرمزية والمشفرة لزعماء العالم في حالات استقبالهم ووداعهم، أو من خلال المقابلات التلفزيونية، فمن كان يعرف كيف دُمر حكم آل رومانوف (القياصرة)، وعايش الحقبة الشيوعية والستالينية، وانهيار “إمبراطورية” الإتحاد السوفياتي، وزمن نهوض روسيا الحالي … رجل استطاع، أن ينهض بروسيا الجديدة ويقول للأميركي والغرب بأجمعه كفى… وأوقف العالم على شفير حرب نووية لوضع شروطه.
والآن بعد ضم الجمهوريات الأربع الاستراتيجية (لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزاباروجيا) التي دخلتها القوات الروسية في شرقي أوكرانيا، يبرز إطار آخر يعزز الأهمية الاستراتيجية لهذه المناطق، وبهذا، يكون فلاديمير بوتين، قد حقق ما وصفه عند بدء الحرب بـ”العملية العسكرية الخاصة”.
المراقب للأحداث منذ بدئها يلاحظ أن الاكثر تضرراً بهذه الحرب هي أوروبا، فالتداعيات الاقتصادية وارتفاع أسعار المعيشة والضيقة التي يعانيها الأوروبيون لم يشعروا بها منذ الحرب العالمية الثانية، والسؤال الذي يطرح نفسه، الى متى ستستطيع دول أوروبا المكابرة على نفسها والإنصياع بكامل إرادتها لجشع الإدارة الأميركية، التي تبيعها الغاز والمشتقات النفطية بأربع أضعاف عما كانت عليه قبل الأزمة. وهل المطلوب من قبل أميركا تدمير الاقتصاد الأوروبي برمته، أو إضعافه على أقل تقدير بعدما بلغت الأمور تأخذ المنحى التصاعدي وصولاً الى التهديد بالأسلحة النووية؟
ونرى أن التكتيكات المتبعة لحلف الناتو في هذه الحرب، مجرد تظهير لصور إعلامية (ميديا)، لا تحقق شيئا على المستوى العسكري لا في الأرض ولا في السماء، وتكاد تكون فقاعات صابون تظهر وتختفي بعد لحظات وليس لها أي تأثير مباشر على الأرض، بانتظار لحظة معينة لإعلان التفاوض حول صيغة ما لوقف الحرب، او الذهاب بعيداً، نحو حرب أشمل وأوسع، قد تستعمل فيها الأسلحة الفتاكة والنووية، وهنا لا بد من الإشارة الى العمليات ذات الطابع الإرهابي والتي بدأت منذ محاولة اغتيال الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين والتي راح ضحيتها ابنته داريا، ونسف “خط نورد ستريم 1″ و”تفجير جسر القرم بمتفجرات وضعت في لفافات أفلام ونقلت من أوديسا إلى بلغاريا من قبل جهاز استخبارات وزارة الدفاع الأوكرانية، ورئيسه كيريل بودانوف”. بحسب تقرير الأمن الروسي. ناهيك عن المذابح اليومية التي يقوم بها الأوكران، كل هذه مؤشرات إلى أن ما يقوم به احلف الناتو لغاية الآن لا غاية منها سوى التظهير الإعلامي والانتصارات الوهمية لإقناع الرأي العام العالمي بقراراتهم التي لا تفيد سوى رغبة الأميركيين تحديداً.
رجل لأجل مبنى أمني قديم تابع للاتحاد السوفياتي كاد أن يقتل ٧ اشخاص ويقتل نفسه… كيف اذا ما كان أمن “روسيا العظمى” مهدداً
ألن يفجر الحرب العالمية الثالثة لأجلها؟ معادلة بايدن VS بوتين، تكاد تكون خاسرة للولايات المتحدة وأوروبا فرجل يعتبر نفسه مديناَ لحذاء والدته لا يقارن بمن ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، احذروا النمر إذا غضب … إنه القيصر.
——————————————————————-
المصادر: الدايلي ميرور، نيوزويك، فورين أفيرز، موقع الكرملين الرسمي، ذا صن، ومجلة روسكي بايونير الروسية. ( Russky Pioner).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى