الرئيسية

خطة السلطة: تضخم يأكل الأخضر واليابس

الحوارنيوز – الاخبار

تحت هذا العنوان كتبت صحيفة الأخبار إفتتاحيتها وتحدثت عن الإنهيار الحاصل في سعر صرف الليرة اللبنانية وانعكاس ذلك على الأوضاع المعيشية للبنانيين.

وكتبت “الاخبار” في افتتاحيتها تقول:” بدأ مخطط السلطة يؤتي “ثماره”. سعر الدولار تضاعف مقابل الليرة 10 ‏مرّات خلال أقلّ من سنتين، وغذّى تضخّم الأسعار مكبّداً المقيمين ضريبة ‏باهظة على أجورهم ومدّخراتهم. تناوب أركان السلطة على قيادة العملية. ‏حاكم مصرف لبنان أطلق تعدّد أسعار الصرف. الحكومة تفرّجت. مجلس ‏النواب، عبر لجنة تقصّي الحقائق، قلب المعادلة من خسائر هائلة في ‏القطاع المصرفي إلى لا خسائر. واليوم، يبشّرنا وزير المال بتحرير أسعار ‏المواد الغذائية والبنزين. النتيجة: فقر وهجرة

المشهد أمس كان مأسوياً. فمع بلوغ سعر صرف الدولار 15 ألف ليرة مقارنة مع 10 آلاف ليرة قبل بضعة أيام، ‏اجتاحت الأسواق صدمة التضخّم المفرط. في إحدى السوبرماركت، كان سعر السلع على صندوق المحاسبة يقفز بين ‏لحظة ولحظة، إلى أن صرخ أحد المديرين عالياً: الدولار وصل إلى 15 ألف ليرة. أوقفوا المبيع. هذه ليست رواية ‏منقولة عما بدأ يحصل في فنزويلاً في عام 2014، بل حادثة مثبتة في لبنان. فالتسارع في ارتفاع سعر صرف الدولار، ‏ضغط على الجميع؛ المستهلكون تزاحموا على أبواب السوبرماركت من أجل تموين السلع قبل زيادات إضافية في ‏الأسعار في محاولة للحفاظ على ما تبقى من قوّة شرائية لمداخيلهم، بينما التجّار كانوا على جهوزية تامة عند صناديق ‏الدفع، للحفاظ على رساميلهم من الذوبان. المسافة الفاصلة في ميزان القوى بين الطرفين لم تتغير، بل ما زالت لمصلحة ‏الفئة الأقوى. التجّار مدفوعين بجشعهم لديهم أفضلية على المستهلكين المفجوعين بأجورهم‎.

كان متوقعاً أن يحصل هذا الأمر بمجرد بدء رفع الدعم عن أسعار السلع الأساسية المستوردة. بالفعل، يأتي هذا ‏التطوّر بعد بدء إلغاء الدعم عن بعض السلع الغذائية المستوردة، وبعد جفاف السوق من الدولارات التي سحبتها ‏المصارف وأجّجت مضاربات واسعة على العملة. ما يحصل ليس سوى البداية. فوزير المال غازي وزني، ‏‏”بشّرنا” أمس، في مقابلة مع “بلومبرغ” بتقليص دعم المواد الغذائية والبنزين، مشيراً إلى أنه ستزال بعض ‏المنتجات عن قائمة السلع المدعومة، بينما يتم التخطيط لزيادة أسعار البنزين خلال الأشهر المقبلة عبر “خفض ‏دعم البنزين من 90% إلى 85‏‎%”.

حسابات وزني عن نتائج هذه السياسة مواربة. فهو قال إن “هذه الإجراءات ستغذّي التضخّم المتوقع أن يبلغ ‏‏77% هذا العام قبل احتساب تقليص الدعم”. بهذا المعنى، يقصد الوزير أن تقليص الدعم سيرفع معدلات التضخّم ‏أكثر. لم يحدّد سقفاً له، إنما استرسل في الحديث عن مبرّرات هذا السلوك: إنقاذ الاحتياطات بالعملات الأجنبية ‏المتضائلة. ولفت إلى أن الاحتياطات القابلة لتمويل الدعم تبلغ 1.5 مليار دولار من أصل 16 مليار دولار أميركي ‏يحملها مصرف لبنان “الأمر الذي يكفي لشهرين أو ثلاثة أشهر‎”.

للوهلة الأولى، يبدو وزني محقاً في ما يروّج له من تضخّم يحافظ على الدولارات. لكنه في الوقت نفسه أيضاً، بدأ ‏كأنه يبرّر تسارع سعر صرف الدولار من 10 آلاف ليرة إلى 15 ألف ليرة خلال أيام. لم يشر الوزير إلى خطيئة ‏تبديد الدولارات على دعم السلع المستوردة، ولا إلى الكارثة التي سيخلّفها التوقف عنه. ففي ظل مواصلة قوى ‏السلطة التي يمثّلها الوزير (كل القوى وليس فقط الجهة السياسية التي يمثّلها في الوزارة ضمن التركيبة الطائفية) ‏على إنكار الانهيار، وانكبابها لاحقاً على “تجميله”، خلقت ظروفاً وبيئة مناسبة لتدهور متسارع في سعر الليرة. ‏وهذا التسارع سيتزايد عندما يُرفع الدعم؛ آلية رفع الدعم تعني بشكل واضح أن مصرف لبنان سيتوقف عن ضخّ ‏الدولارات لتمويل استيراد السلع، ما يعني أن التجّار سيلجأون إلى السوق للحصول على كميات من الدولارات ‏لتمويل استيراد السلع التي كانت مموّلة من مصرف لبنان. وفي ظل سوق مشوبة بجفاف الدولارات، سيصبح ‏الطلب الإضافي عاملاً مسرّعاً لزيادة سعر العملة الخضراء مقابل الليرة، ومحفّزاً للتوقعات التي تقود السوق‎.
سلوك السلطة ومديرها التنفيذي حاكم مصرف لبنان، أدّى خلال أقلّ من سنتين إلى تضاعف سعر الدولار 10 ‏مرّات مقارنة مع السعر المثبت على 1507.5 ليرات وسطياً. قفزة كهذه، هي واحدة من أبشع وأسوأ أنواع ‏الضرائب التي تفرضها أي سلطة على شعبها. يسمّيها الوزير السابق شربل نحاس “تشليح”. فهي تصيب القوّة ‏الشرائية للمداخيل والمدخرات. تضرب فئات الدخل الأدنى بشدّة. تذوّبهم وتعصرهم. هي ضريبة خسيسة تشبه ‏العقل الذي يفرضها. تداعياتها طويلة المدى، وتُسبّب الفقر الاقتصادي والفقر الغذائي، وتدفع نحو هجرة الشباب ‏وخصوصاً ذوي الكفاءات العالية‎.

حصل ذلك لأن السلطة وقفت متفرّجة. كل خطوة “فرجة” غذّت الانهيار أكثر. “الفرجة” هي غطاء لكل عمليات ‏المضاربة على العملة. وغطاء لكل تعاميم مصرف لبنان. وغطاء لقرارات الكابيتال كونترول غير الشرعي ‏والاستنسابي الذي فرضته المصارف على زبائنها… فقد خلقت “الفرجة” مناخاً محفّزاً لتضخّم الأسعار (بما فيها ‏سعر الصرف). أشعلت التوقعات السلبية التي تغذّت على التضخّم، ثم غذّته في المقابل‎.
في البداية، تُرك الأمر على عاتق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. هذا الأخير تخلّى عن تثبيت سعر الصرف ‏بما يخصّ غالبية النشاطات المصرفية والتجارية، باستثناء سلة من السلع (محروقات، قمح، دواء، مستلزمات ‏طبية، ولاحقاً مجموعة سلع غذائية). خلق ما يسمّى المنصّة التي حدّدت سعر الدولار بـ 3000 ليرة، ثم بـ 3900 ‏ليرة ثابتة منذ أشهر. قبلها، كانت المصارف قد أوقفت كل عمليات السحب والتحويل. تزامن الإجراءين، انبثق منه ‏تجارة شيكات الدولار المحلي. سعر الدولار المحلي تقلّص اليوم إلى 24% مقابل الدولار الطازج. وفي ظل وقف ‏عمليات السحب والتحويل، بات تمويل التجارة الخارجية على عاتق السوق الموازية القاصرة عن تأمين ما يكفي ‏من الدولارات لتغطية طلب التجّار. تدريجياً، ارتفع سعر الدولار وبدأ المصرف المركزي يطبع الليرات لتغطية ‏سحوبات المودعين من المصارف على سعر المنصّة. أكثر من 30 ألف مليار ليرة طبعت خلال سنة ونصف ‏سنة. تضاعفت الكتلة النقدية في التداول ست مرات في هذه الفترة. بمعنى أوضح، انخفضت قيمة الليرة وتدهورت ‏معها القوّة الشرائية. فقد كان انهيار سعر الصرف عاملاً محدداً للتضخّم، قبل أن يصبح هذا الأخير وبمعدلات ‏كبيرة عاملاً محدداً لمزيد من الانهيار في سعر الصرف. كانت الغاية من هذه المعادلة إطفاء خسائر القطاع ‏المصرفي. كل دولار يدفعه المصرف المركزي على سعر المنصّة، تطفئ المصارف مقابله دولاراً بسعر الـ ‏‏1500 من الودائع المسجلة على دفاترها. والناتج من هذه العملية أموال إضافية أكثر تضخّ في السوق وتتحوّل إلى ‏طلب إضافي على الدولار‎.‎

في مرحلة ما من هذه العملية، كانت مسألة تحديد الخسائر من أجل توزيعها هي القصّة الأساس. عملية التحديد ‏قامت بها الحكومة. لم يعجب الأمر الحاكم ولا أياً من أصحاب المصارف ولا العدد الأكبر من النواب بمن يمثّلون. ‏لذا، قامت لجنة في مجلس النواب بالتصدّي لهذه المسألة في أساسها. وبدلاً من درس آلية توزيع الخسائر ‏ومعاييرها، تركّز النقاش في اللجنة على حجم الخسائر. بسحر ساحر، تقلّصت الخسائر من هائلة إلى طفيفة. ‏بعدها أتى انفجار مرفأ بيروت، وأطيحت الحكومة. تكلّف الرئيس سعد الحريري، لكنه لا يزال يماطل التأليف. من ‏أحد أسباب مماطلته، أنه يريد رفع الدعم وتحرير سعر الصرف بشكله الأوسع، قبل التأليف‎.

عملياً، تُرك استيعاب الانهيار ومعالجة تداعياته بيد حاكم مصرف لبنان. خطّته للإنقاذ نيابة عن السلطة وباسمها، ‏قضت بإصدار تعاميم تهدف إلى إطفاء خسائر القطاع المصرفي. هي الخسائر الواقعة بين مثلث: مصرف لبنان، ‏المصارف والمودعون. ووسط هذا الأمر، كان هناك قطبة اسمها “الدعم”، أي السلع التي أبقى مصرف لبنان ‏استيرادها على دولار الـ 1520. مُوّل هذا الدعم بما تبقّى من دولارات لدى مصرف لبنان. الدعم استنزف ‏الدولارات. أما الرجوع عنه فسيحدث صدمة تضخمية هائلة. هكذا تقرّر أن تكون الصدمة على جرعات. تقليص ‏الدعم وترشيده ليواصل الناس تسديد الثمن من مداخيلهم ومدخراتهم. خطّة في غاية المكر والبشاعة ستولّد المزيد ‏من الفقر والكثير من الهجرة‎.‎

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى