
الحوارنيوز – صور
بدعوة من جمعية هلا صور الثقافية الاجتماعية ورئيسها الدكتور عماد سعيد،حاضر الإعلامي واصف عواضة في معرض الكتاب العربي العاشر في مقر الجامعة الإسلامية في مدينة صور عصر الجمعة تحت عنوان “الإعلام المعاصر والحرية المسؤولة ” في حضور حشد من الشخصيات والمواطنين من المدينة ومنطقتها، ولفيف من أمهات الشهداء.
وقدم للمحاضر مدير المعرض المخرج الفنان علي كلش، وتخلل اللقاء تكريم لعواضة وعدد من الشخصيات ،وأعقب المحاضرة حوار حول آخر التطورات السياسية.
وتحدث عواضة عن دور الإعلام ورسالته الوطنية والإنسانية، وحيى شهداء الجنوب وامهات الشهداء وصمود الجنوب في وجه العدوان الصهيوني، وأجاب على عدد من تساؤلات الحضور حول مستقبل الاوضاع في لبنان عامة والجنوب خاصة على المستوى الأمني٠ وشكر عواضة كلا من هلا صور والدكتور الصديق عماد سعيد ومعرض الكتاب والحضور الكريم ٠ وتسلم الدرع التقديري شاكرا هذا التكريم الذي يفتخر به كونه من جمعية هلا صور الثقافية الاجتماعية “التي تبذل كل جهد مثمر من أجل رفع شان الثقافة والاعلام في لبنان ولها حضورها الممتاز في الميدان الثقافي والاعلامي والوطني والعربي”.
نص المحاضرة
وهذا نص المحاضرة التي ألقاها عواضة:
أود بداية أن أعبر عن بالغ سعادتي بوجودي بين هذه النخبة الكريمة ،ولأكثر من سبب:
السبب الأول أنني في مدينتي الأولى وقد عشت فيها ردحا من حياتي أيام الدراسة في ثانوية صور الرسمية،قبل أن أنتقل إلى عالم الإعلام في بيروت عام 1976.
وبين صور والناقورة، حيث مسقط رأسي، وحدة حال ما تزال قائمة حتى الآن..صور التي تحتضن اليوم مع ضواحيها معظم أهالي الناقورة الذين دمرت منازلهم شر تدمير على أيدي الاحتلال الإسرائيلي الغاشم.
السبب الثاني أنني هنا اليوم بدعوة كريمة من جمعية كريمة وصديق عزيز ورفيق درب طويل هو الدكتور عماد سعيد.
وثالث هذه الأسباب أنني الآن في المكان الذي تعرفت فيه لأول مرة ،وكنت في سن العاشرة من عمري ،على الإمام المغيّب السيد موسى الصدر. ففي هذا المكان حيث تقوم اليوم الجامعة الإسلامية ،ومن قبلها معهد الدراسات الإسلامية ،كانت هناك إستراحة على هذا الشاطئ الجميل ،وكان الإمام الصدر يقصدها عصرا مع نخبة من العلماء والفاعليات الصورية ،وكان صهري الراحل يدير هذه الإستراحة ،فألجأ اليها أحيانا بعد انتهاء الدراسة. وكان لي شرف التعرف على الإمام ومواكبة مسيرته حتى اليوم الأخير قبل سفره إلى ليبيا ،وكنت قد بدأت العمل في مهنة الصحافة ،ومن محاسن الصدف أن أستاذي الأول في المهنة السيد عباس بدر الدين كلفني بتغطية نشاطات الإمام في مقر المجلس الشيعي في خلدة الذي صار اليوم المقر الرئيسي للجامعة الإسلامية. ولهذه المسيرة حكاية طويلة رويتها بالتفاصيل في كتابي الصادر عام 2015 تحت عنوان “ليس كمثله يوم”.
أيها الأخوة،
عنوان هذه الندوة في معرض الكتاب العربي ،”الإعلام المعاصر والحرية المسؤولة”، وقد أردته اختصارا لنحو نصف قرن من الزمن في مهنة الصحافة والإعلام. فمن مدرستي الأولى وكالة أخبار لبنان ،إلى صحيفة الشرق ،ومجلة الشراع والوكالة الوطنية للإعلام وتلفزيون لبنان وتلفزيون “أن بي أن” فجريدة السفير إلى موقع “الحوارنيوز” ألذي أديره اليوم ،مسافة زمنية،تطور فيها الإعلام بصورة مذهلة ،وتقدم فيها بفعل التكنولوجيا الحديثة وظهور الأنترنت ،ما يعادل ألف عام من التطور. والله أعلم أين سيذهب بنا هذا التطور في عصر الذكاء الإصطناعي الذي يقول لك بالفم الملآن :”لا تفكر من الآن وصاعدا ،فأنا كفيل بالتفكير عنك”.وبصراحة صرت أخشى على الإبداع البشري أن يزول من الوجود .
وليس سرا أن الإعلام والحرية صنوان .فلا إعلام حقيقيا من دون حرية. ولا إعلامي أو صحافي حقيقي ناجح إن لم يكن حرا.ولكن للحرية حدود،هي المسافة بين أن تكون فوضى أو أن تكون مسؤولية.والإعلامي الذي يستطيع في هذا الزمن أن يضبط حريته ليكون مسؤولا ،هو الإعلامي الذي يتحلى بالأخلاق المهنية.وأقول بأسف شديد ،كم وكم من إعلاميي اليوم الذين لا يتحلون بهذه الفضيلة ،فأخذتهم العزة بالإثم،أو اشترت أقلامهم مغريات الدنيا ،فباتوا لا دنيا ولا آخرة.
وتكمن خطورة الإعلام اليوم وفي الماضي وفي المستقبل ،أنه وسيلة تصنع الرأي العام.
فالإعلام ببساطة هو وسائل اعلامية واعلاميون. يعني وسيلة وبشر يستخدمون هذه الوسيلة لأهداف قد تكون نبيلة وقد تكون شريرة. وقد قيل سابقا ان الاعلام هو السلطة الرابعة،تسبقه ثلاث سلطات هي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية.
وثمة من يرى اليوم ان الاعلام بات فوق كل هذه السلطات بحيث بات يهز عروشا، ويسقط حكاما وأنظمة، ويزيل مواقع من جذورها. وفي هذا الكلام كثير من الواقعية. يكفي ان يسلط الاعلام سهامه على قضية ما كي تهتز اركانها .لكن هذا الامر تتفاوت مفاعيله بين مجتمع وآخر. يعني كم من مسؤول في بلدان كثيرة سقط عن كرسيه او انتحر بسبب تلقيه هدية تافهة غير مشروعة،فيما مسؤول آخر في بلدان اخرى تلفه الفضائح من كل جانب ،ومع ذلك يحتفظ بموقعه من دون خجل او وجل ،وما اكثر هؤلاء في بلادنا. والسبب ان الاعلام في المكان الاول استطاع ان يصنع رأيا عاما يمكنه ازالة ذلك المسؤول ،بينما فشل في المكان الثاني من تحقيق هدفه لأسباب تتعلق بطبيعة المجتمع الذي يعيش فيه هذا المسؤول وثقافته السياسية والمجتمعية.
والاعلام بشكل عام هو قطاع صاحب وظيفة. هذه الوظيفة هي إخبار الرأي العام بالمعلومات على خلافها من خلال الاعلاميين ووسائل الاعلام. ولكن بين الأمس واليوم تطورت وسائل الاعلام بشكل مذهل ،فلم تعد وسائل الاعلام حكرا على اصحاب وسائل الاعلام التقليدية (أقصد الصحف والمجلات والتلفزيونات والاذاعات والوكالات).
ولم يعد الاعلاميون مقتصرين على العاملين في هذه الوسائل ،بل في عصر الانترنت بات كل مواطن في العالم يملك وسيلة اعلامية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي (فايسبوك وتويتر إكس وواتس أب وأنستغرام وغيرها)،وهذا هو المقصود بتعبير الاعلام المعاصر. وقد بات في امكان اي مواطن التأثير في الرأي العام بنسب معقولة. ولكن ليس كل مواطن يملك الإمكانات والخطط والاهداف لكي يكون له دور رئيسي في صناعة الرأي العام ،لأن هذا الأمر يتطلب وجود مؤسسة تخطط وتبرمج وتتصرف .
وأمام هذا الواقع باتت الحرية أكثر خطورة ،وهي اقتربت من الفوضى مسافات ومسافات. يكفي لأي مواطن أن يلقي عبر وسائل التواصل شائعة مغرضة تتلقفها العامة وتنسج عليها الأضاليل والأباطيل،وهيهات أن ينجو المستهدف من البئر العميق الذي ألقي في قعره.
ربما سمعتم بنظرية وزير الإعلام النازي جوزف غوبلز في عهد أدولف هتلر،الذي كانت قاعدته تقول: “أكذب.. أكذب حتى يصدقك الناس ..ولسوف يعلق شيئا في أذهانهم”.
ولعل المشكلة اليوم أن البعض بات يكذب حتى صار يصدق نفسه أنه يقول الصدق.
وكما الإعلام والحرية صنوان ،فإن الإعلام والمصداقية صنوان أيضا. فالكذب وتزوير الحقائق يجرحان سمعة الصحافي ،وحبلهما قصير جدا ،مثلما يجرحان أيضا سمعة ومصداقية أي مغرد عبر وسائل التواصل.
أول درس في الصحافة علمني إياه استاذي الأول عباس بدر الدين ،أن الخبر مقدس لا يجوز التلاعب به.أنت حر أن تحلل وتعطي رأيا قد يصح وقد لا يصح ،لكنك لست حرا في أن تتلاعب بالخبر ،حتى ولو كان يتعلق بألد أعدائك.
وتكمن خطورة الإعلام أيضا وأيضا في مجتمع متعدد كالمجتمع اللبناني ،سياسيا وطائفيا وإثنيا،حيث يكون الإعلام مادة دسمة للصراعات ،فيسعى كل طرف لصناعة رأيه العام ،بعيدا عن الحرية المسؤولة ،مستخدما كل السبل المشروعة وغير المشروعة ،ما ينتج عصبيات قاتلة تعكس حروبا وخلافات عانى منها لبنان ما عاناه وما يعانيه.
ذات يوم كتبت مقالة بعنوان :هل السياسة عمل شريف؟
وقد كان يواجهني وما يزال السؤال نفسه :هل الاعلام عمل شريف؟
بكل أمانة أجيب: نعم ..الاعلام كالسياسة عمل شريف، اذا توفر له شرفاء. وهو في الوقت نفسه عمل شرير اذا تنكبه الأشرار. وبالضرورة ،اذا كان الاعلام فعلا من أجل عالمنا ،فيفترض أن يتنكبه الشرفاء لا الأشرار.
قلت إن مسؤولية الاعلام والإعلامي تكبر في مجتمع متعدد.لا يعني هذا أبدا ألا يكون للاعلامي موقف أو رأي أو حتى انحياز الى فريق ضد فريق ،لكن أن يكون شريفا في الخصام كما في الصداقة ،فهذا هو المعيار .
فالاعلام في تعريفه البسيط هو ناقل ومتلق. وأول حروف النقل في الاعلام هو الخبر .وللخبر قدسية لا يجوز المساس بها.والأمانة تقتضي أن يكون الناقل أمينا .
أما المتلقي فهو أيضا مسؤول،وتقف مسؤوليته عند حدود التمييز بين الحقيقة والتزوير ،ويفترض به أن يغلّب العقل والمنطق في ما يتلقاه من أخبار ،لأن المتلقي في عالمنا اليوم يتأثر ويؤثر ،وغالبا ما يتحول الى ناقل في عصر غلبت فيه وسائل التواصل الاجتماعي ،وسائل الاعلام التقليدية.
أيها السادة
ربما يتراءى للبعض أنني أتحدث عن عالم اعلامي مثالي،لأن الواقع قد يكون مغايرا لما هو مفترض.لكنني أزعم خلال تجربة تسعة وأربعين عاما في مهنة الاعلام ،أنني حاولت جاهدا أن أمارس المهنة بشرف وأمانة .ولا أنكر أنني وقعت في بعض المطبات نتيجة تسرع أو انفعال أو تقصير في تقصي الحقيقة .لكنني تعلمت أولا وآخرا ،وحرصت وما أزال ،على أن أقبل الآخر،قبل أن أتقبل رأيه وموقفه . ولعل أكبر عيوب ومساوئ الإعلامي أن يرفض الآخر أو يلغيه من حساباته. والحمد لله أن الكثير من أصدقائي اليوم هم من الذين لا أتفق معهم في النهج السياسي.
في الخلاصة
يعيش الإعلام المعاصر مفارقة مثيرة: فقد تطورت أدواته بشكل مذهل بفعل التكنولوجيا ووسائل التواصل، فأصبح أكثر حرية وأوسع انتشارًا. لكن من جهة أخرى، هذه الحرية المطلقة أحيانًا أصبحت تهدد مصداقيته وأخلاقياته، ما جعل الحاجة إلى “الحرية المسؤولة” أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
والحرية المسؤولة تعني أن يمارس الإعلام حقه في نقل المعلومات والتعبير عن الرأي دون قيود تعسفية، ولكن مع احترام الحقيقة، وعدم التلاعب بالجمهور أو إثارة الفتن أو نشر الأكاذيب. الإعلام ليس سلطة مطلقة فوق المجتمع، بل هو شريك في صيانته، ومسؤولا أمام ضميره المهني والجمهور.
فالإعلام الحر الذي لا يعرف المسؤولية يتحول سريعًا إلى فوضى تضر أكثر مما تفيد. بالمقابل، الإعلام المسؤول الذي يحترم حرية التعبير، ويزن الكلمة بميزان الصدق والمصلحة العامة، يرسخ ثقافة الحوار ويحصّن المجتمع ضد الأكاذيب والانقسامات.
إن التحدي اليوم ليس في أن يكون الإعلام حرًا فحسب، بل أن يكون حرًا وعاقلًا في آنٍ معًا. لأن الحرية التي تنفلت من عقالها تصبح سلاحًا بيد الفوضى، بينما الحرية المسؤولة تصنع وعيًا، وترتقي بالمجتمعات نحو مستقبل أكثر عدلاً ونضجًا.
ويواجهني دائما سؤال لا بد منه :أين تكمن المشكلة ،وما هو الحل؟
أقول بكل راحة ضمير ،إن المشكلة ليست في الاعلام والإعلاميين فقط ،بل هي في طبيعة النظام السياسي القائم الذي يدفع وسائل الاعلام والإعلاميين كي يكونوا مطية في تصرف أهل السياسة والسلطة والنفوذ.
والمعادلة هنا بسيطة جدا. فهذا النظام السياسي الطائفي لا ينتج دولة حقيقية ،وفي غياب الدولة تختل كل الموازين والمقاييس بما فيها موازين ومقاييس الاعلام . وعبثا نفتش عن اعلام وطني جامع وقادر على الاستمرار ، في غياب نظام سياسي وطني جامع يعتمد المواطنة بديلا للمحاصصة.
أختم لأقول :ليس هناك إعلام حر مائة بالمائة ،لذلك علينا أن نكون حذرين دائما في التعاطي مع وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي. ولكي نكون أحرارا بمسؤولية علينا التدقيق.. ثم التدقيق.. ثم التدقيق في الأخبار التي نتلقاها أو ننشرها، كي لا نفقد مصداقيتنا وأخلاقنا المهنية والإنسانية.
كانت هناك نظرية تقول إن ناقل الكفر ليس بكافر..
اليوم أسمح لنفسي أن أقول أن ناقل الكفر.. كافر.. وكافر.. وكافر !
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تكريم ودروع
وبعد المحاضرة جرى تكريم وتقديم دروع لعدد من المشاركين وبينهم الزميل محمد درويش.