رأي

رئيس جمهورية السكّر المر (نسيم الخوري)

 

بقلم الدكتور نسيم الخوري-الحوار نيوز
ما ذنبي؟

أعذروني إن لم أستطع أن أسلخ محاولات الكتابة عن هولاكو الذي رمى المكتبات والمخطوطات في البحار ليصير لون مياهها حمراء وتصفّت عبر التاريخ فصارت أميل إلى لون السماء التي لطالما نشّفت دموعها.
لكننا كنّا وما زلنا نقفز ونضحك ونبحث منذ مئة عن وطننا بلهاء كما القنافذ…
أرى في الكتابة ظلاًّ لقبضته، ولهذا أشهر “تفاؤلي” وأعشاش النسور في وجه أيّ لاهثٍ وراء الحرف أينما أزهر في قريتي الكفير في سفح الجنوب أم فوق رأس أشواك القندول فوق جبل حرمون نطلّ منه على الشرق الأوسط ونبحث مجدداً عن سوريا وبلدان الشرق لربّما نتخلّص من هولاكو عتيق كي لا يفاجئنا هولاكو جديد جديد … زوجته تُخبرنا عن تحريك أصابه ويداه عمّا قريب نحو تجديد الحكم فإذا هو ييننا.
كلّ ما يحصل من حولنا مثير لرغبات الحبر، والدعوة مقدّسة هرباً من الحمم الهولايكيّة.
وبيروت ومن بيروت إلى بغداد، يتعلّم الحبر الصلابة نستلّها مع كلّ سطر وفاصلة تبقى مشروع شهادة لكلّ من أمسك القلم فأفرغ وتفاءل.
لماذا ؟ لقد فقد السكر طعمه في لبنانكم
السكّر مرّ في لبنان.
ما أصدق الكلمات التي تتّخذ في لبنان شكل عشواء وملامحها. تقلّد عشواء في خطاها وغنجها بأسنانها الفرمة. نحن من ذريّة عشواء زوجة هولاكو وتتكدّس أجيالنا الممسوخة في حضنها بقيادة حفنةٍ من نواطير الخرائب.
أكرّم أبناء بلادي بكتاباتٍ عشوائيّة كي نحسن قراءتها بانتظار مغامرات قاتلة تحمل إلينا الشمس. ولكن………………….
في غضون ذلك (إنتبهوا إلى غضون التي تتكرّر في نشرات القوى الإعلامية العظمى الفعل الكتابي القهّار)، ألتفت من حولي فأشمّ روائح التاريخ الكتابي والنضالي، ومجمله يفبرك عند الفجر، فلا ألمح سوى رجال التقارير، والبيانات العشوائيّة تتطاير من البراميل المحروقة المصفوفة على قفاها في الطرقات والساحات، ورجلاَ يتكوم وقد أكله الجوع والتعب يحمل زوجته فوق ظهره بحثاً عن عمّن يعتني بها، بينما يمرّ هولاكو بخطى مرعبة لا نسمع سوى وقعها في الأرجاء.
عندها أشحن حبري. ألملم أوراقي، وأغرس قلمي جنديّاً له شكل قنبلة تداعبني ولا تنفجر بين أصابعي، أتأهّب للحريّة والتحيّة وأروح أتذكر بحثاً عن تلك القصّة العتيقة:
أتذكّر أبي كم كان يرعب امرأة عمّه أي جدّتي “حلوي” المسكينة…مع أن شقيقها هو نقولا أبو رحّال الجنوبي الكفيري الذي حمل الكشّة فوق ظهره منذ ما قبل الميلاد، وسافر على قدميه نحو الولايات المتحدة الأميركيّة، وصارحفيده عضواً في الكونغرس الأميركي لكنه لم يعرف التلفّظ الصحيح باكونغرس، والحفيد صار اسمه “نك” بدلاً من نقولا، أرسلته أميركا مبعوثاً من أصول لبنانية يوماً للمساعدة في حلّ عقد حبال الدنيا حول عنق لبنان والتقيناه، وزار بيت جده هناك حيث الحائط “المكركع” والجنينة المطلوسة بالقندول والشوك، لكنه غاب منذ 20 سنة وتضاعفت عقدنا وعقودنا ولم نعد نعرف عنه شيئاً لكثرة المبعوثين من أنحاء الأرض وآخرهم لوبريان الذي سيبري ما تبقى من أنفاسنا قبل أن نعرف من هو هذا الذي سيذهب نحو كرسي قصر بعبدا المهلهل.
أتذكّر أبي كيف “ضبع” جدّتي يوماً، فوق سطحنا الترابي، وأقنعها بعبسةٍ واحدة أنّ السكّر صار شديد المرارة في لبنان، وأنّ الفساد والغشّ ضربا الحيوانات المنوية لأجيال التجّار المدعومين في لبنان حتّى باتوا كما السوس ينخرون الأجيال في أرحام الأمهات وصولاً إلى هيكل لبنان العظمي بأرضه وشعبه وحبره:
“سفّت” الجدّة حفنةً من “كيس” أسمر وبداخله السكّر الأبيض، وسرعان ما بصقت صارخةً: تفه..تفه…. وبصقت بمحرمة ملفوفة ربّما منذ أسبوع أو أكثر بيدها أو جيبها، وقالت: ما لهذا السكّر المرّ في لبنان؟ شي بيعجّب…ما في غير دكانة لبيب أو دكانة عازر. لا يا جدّتي لا علاقة لهما بمرارة السكر الذي يستوردانه من من بيروت…من “رئيس جمهورية السكّر”…
الوطن كلّه صار جدّتي… يا جدّتي الحلوة عظامك في المقابر عند بيادر الكفير… وروحك حلوة مثل اسمك في ماء السماء تبصق على تجار لبنان ومرارة السكّر في لبنان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى