ثقافةكتاب

“وثيقة المدينة” المنوّرة: دراسات في التأصيل الدستوري في الإسلام

 

نص سلوى فاضل

 

الإسلام مدينيّ أم مكي؟

ثمة من يقول إن الإسلام هو الإسلام المديني، هو الإسلام الدستوري القائم على وضع أسس الدولة، هو الإسلام اللاعنفي، البعيد عن الإسلام المكي. وثمة من يقول إن الإسلام المديني هو تعبير واضح عن فصل الدين عن الدولة، من خلال التعاليم الأخلاقية والتربوية التي أكدها النبي محمد بن عبد الله في سلوكه وسيرته في نشر الإسلام ،الدين الجديد ،على المنطقة العربية.

ففي كتاب “وثيقة المدينة دراسات في التأصيل الدستوري في الإسلام” الصادر عن “مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي” بالتعاون مع “مركز دراسات الكوفة” تحاول عشرة أبحاث لعشرة بحاثة في 253 صفحة، هي عبارة عن مؤتمر مُختص بالبحث “في أقدم وثيقة ذات صلة بتأسيس مجتمع سياسي في العالم”، تحاول دراسة ” علاقة الحاكم بالمحكوم”، و”تاريخ الدولة والسلطة في الإسلام”، في سابقة قد يكون أكبر باحثي المسألة السياسية قد تأثر بها كالمفكر جان جاك روسو كما يُنقل.

 

سابقة على الحضارة

 

سبق محمدا الرسول الكريم، الفكر الأوروبي في تقديم رؤياه الدستورية القائمة على توزيع المسؤوليات والمهمات، القائمة على الحريات والحقوق، والتي سُميت “وثيقة المدينة”.

  عالجت الوثيقة “مفهوم الدولة المدنيّة، وقضايا الدستور، والحريات العامة، وحقوق المواطنة، وإدارة التعدديات الدينية، والعدالة الانتقالية لحلّ النزاعات، والفلسفة السياسية للعلاقة بالآخر”.

 

الحدود السياسية

 

ورغم أن الإسلام لا يعترف بتثبيت مفهوم الحدود، إلاّ أن هذه الوثيقة “أسست لحدود إقليم الدولة ولمفهوم السيادة وللشرعية والسلطة”، حيث جمع النبي محمد الصفات السياسية مع الصفات الدينية، كما هو حال ولي الفقيه اليوم في إيران، ربما في محاولة استعادة لسيرة النبي في الخوض بالمسألة السياسية، التي لا تفصل بين الأمر الدنيوي والأمر الديني في الإسلام.

 

أول اتفاقية مدينية

 

في 51 مادة، عقد النبي الأكرم أول اتفاقية “مدينية” لحفظ الدين الجديد، ولنشره بسلام في الجزيرة العربية في ظل انتشار اليهود المُعادين (بني إسرائيل)، وغير المُعادين من القبائل الذين عملوا على توسعة شق الخلاف بين الأوس والخزرج من أجل المزيد من النفوذ.

كانت الوثيقة أو “الصحيفة” دستورا ومواعدة ومعاهدة على السلام، وهي مؤلفة من 52 بنداً. وهي أول دستور مدني في تاريخ الدولة الإسلامية، تمت كتابتها فور هجرة النبي محمد إلى المدينة المنورة، وهي تهدف إلى تحسين العلاقات بين المهاجرين والأنصار واليهود، جميع مكونات مجتمع المدينة آنذاك، وأهم ما فيها أنها سمحت لأتباع الديانات المختلفة بالعيش مع المسلمين وبحرّية، وإقامة شعائرهم، وكان هذا في السنة الأولى للهجرة النبوية من مكة إلى المدينة عام 623 ميلادية.

 

المواطنة

 

من ميزات الوثيقة، بحسب الدكتور عبد الجبار زين العابدين خلف، أنها “حددت مفهوم الأمة، وهو أمر جديد كل الجدة في تاريخ الحياة السياسية للجزيرة العربية، حيث نقل “الرسول قومه من القبلية إلى شعار الأمة، التي تضم جميع معتنقي الدين الجديد”. كما اعتبرت “الوثيقة اليهود جزءًا من مواطني “الدولة الإسلامية””.

وحددت الوثيقة المرجعية العليا للأمة في تفسير كل ما يتعلق بالمدينة، وفي ذلك تأكيد ضمني على “رئاسة الرسول محمد (ص) للدولة”.

في الوقت الذي ترك لليهود إدارة شؤونهم الداخلية مع بقاء الكلمة الفصل للنبي ، وهو أشبه ما يمكن وصفه اليوم بالدولة المدنيّة في عصرنا الحاضر، حيث القوانين تحكم الجميع، وحرية ممارسة الشعائر الدينية حق للجميع، مهما اختلفت توجهاتهم.

 

قوانين حضارية

 

كما سنّت الوثيقة وجوب الحفاظ على ممتلكات هذه الدولة الناشئة بادارة الرسول ، فـ”لا يُقطع شجرها ولا يُقتل حيوانها ولا يُساء إلى بيئتها”، كل ذلك تحت اطار “أمة واحدة، وإقليم واحد، هو المدينة المنورة، وسلطة حاكمة هي ما أنزل الله من أحكام عبر النبي محمد الحاكم الوحيد.

ومع اتساع الفتوحات، انتشر الدين الجديد حيث بات الاسلام رسالة للأمة جمعاء، بل رسالة عالمية لا حدود لها سوى الإنسانية. فـ”الدولة الإسلامية هي دولة الرسالة العالمية”.

ويُعلق البحاثة في كتابهم هذا على مسألة مهمة جداً بالنسبة لإنسان العصر الحالي المُعولم، الذي يفتخر بمسألة الحريات والحقوق، ليكشف الباحث الدكتور عبدالجبار زين العابدين خلف أن الرسول محمد  كان قد ضَمِنَ بوثيقته هذه، الحريات، وحقوق الإنسان، والعدالة والمساواة، انطلاقا من قوله تعالى في كتابه الكريم: “لا إكراه في الدين”.

 

أمة محمد المتنوعة

 

ويهدف النبي محمد من هذه الوثيقة إلى التعايش بين أبناء الأمة الواحدة، وهي ليست بالضرورة على إيمان واحد أو دين واحد، وذلك من أجل تنظم العلاقات بين المسلمين من جهة، وبين المسلمين واصحاب الديانات الأخرى من جهة ثانية، في اطار التسامح الذي اكتشفته الدساتير الحديثة متأخرة اليوم. وهو استباق لما عُرف حديثا باسم (المُواطنة) و(الإنسان العالمي) والحرّية وصونها.

فهل يعي المسلمون أنهم في حضرة تراث دستوري متقدّم يُشكل أساسا للنظام الدستوري الإسلامي؟ وأن النبي محمد  ترك لهم “الصحيفة” التي هي بمثابة كتاب تأريخي لمرحلة تأسيسية، وهي لَبِنَة من لَبِنَات التنظيم والدسترة؟

 

الدور اليهودي المستمر

 

ولا بد من ملاحظة أن التاريخ لا يخلو من اشارات مهمة، وهي أن يهود بني قريظة ويهود بني قينقاع وافقوا عل هذه الوثيقة ،عدا يهود بني إسرائيل الذين ظلوا يسعون في إثارة الخلافات بين القبائل العربية. فمن هم يهود بني إسرائيل حينذاك؟ هؤلاء اليهود الذين نقضوا العهد لأسباب دينية ولأخرى سياسية.

لم تترك الوثيقة بندا من البنود إلا وناقشته مما خفف من دسائس اليهود وكيدهم في الاضرار بالدين الجديد.

 

أخيراً…

 

يتميّز هذا الكتاب التحليلي التوثيقي بمراجعه ومصادره الكثيرة والتي يعتمد فيها على أمهات الكتب التاريخية الموثوقة، حيث عمد البحاثة العشرة على دراسة الوثيقة “الصحيفة” من كافة جوانبها، وشرعوا في تحليلها وابراز ميّزاتها، خاصة أن الغرب قد سبقنا إلى ذلك. فمنهم من رأى فيها التأصيل، ومنهم من رأى فيها الحداثة، ومنهم من اكتشف فيها المعنى الحضاري، ووجد فيها المعنى السياسي، والجنائي. كما اكتشفوا معنى “المواطنة” و”الانسان العالمي” والابداع السياسي للنبي محمد، وهو الأميّ الذي نزلت رسالته في عالم قاحل بعيد عن المدنيّة بكل مواصفتها،ما يطرح السؤال التالي: كيف تمّكن النبي الأميّ الخارج من مكة، بعد حصار ومحاربة من قريش  من أن يعقد اتفاقية بهذه المواصفات “السوبر أنتلجينس”! وهو الذي لم يكن يُحيط نفسه بفريق سياسي يسانده ذي خبرة بالاتفاقيات والمعاهدات؟؟

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى