رأي

وإذا مشْ عاجْبَك… فِكْ أو أن تجِدْ نفسك بين مَن “لا يشبهك”(حيان حيدر) !

 

بقلم د.حيّان سليم حيدر – الحوار نيوز

 

     في البدء كانت النار والنور ( وفي النهاية إستعرت النار وخبت النور)، وكانت الرياح والألوان…    

     وكان الإنسان والحيوان.  فكان المنطق والجهل.  وكان هناك أشقّاء وأشقياء وشقائق.

     شكّلوا أقوامًا أكوامًا – فكان من حظّنا، أهو حظّ؟، الكنعان والكلدان، الفينيق والسومر والرومان، الروم واليونان، العرب والفرس والعثمان وغيرهم، وكلّهم بالسيف والترس والعدوان.

     وكان حاكم بمسمّيات كثيرة، إحتلال، إنتداب، إستعمار، إستعباد، إستغلال، إمبريال، وآخرهم إسمه إستقلال.

     وبين بين؟  كان نظام الحكم من حمّورابي إلى أمّ الشرائع، بيروت، وفي العام 1926 بزغ نبوغ هنري دو جوفينيل فَوَلد الرقم 95 في دستور لبنان.

     و”تقدّم” لبنان فكانت الصيغة، التي أُدْمِجَت بالميثاق، الذي طاف طوائفيًّا وطُبّق توافقيًّا فانتقل من إعلان إلى نهج ممّا أحكم تحوّله (وأصبح بذلك متحوّلًا) إلى ميثاقية حيث ترقد، كما أعلنّا مرارًا: المشكلة لكلّ حلّ.

     وعليه أصبح المتسبّب والمقياس والعلّة والحلّ لكلّ مصيبة.

     وبشكل عشوائي، لأنّه في حالنا هذه لا مكان ولا جدوى من الإنتظام بالمنطق والخبرة والعبرة، كان ذلك كلّه في السياسة وفي الإنماء والتخطيط والتمويل وفي العيش، المشترك منه، والواحد، وغيره، وأيضًا في الترفيه والتركيع، وفي كلّ ما يمكن أن يكون.  وحتمًا كان في تقاسم مغانم الفساد وتوزيع الخسائر وفي التصرّف بإدارة حياة الناس وبإرادتهم وبشؤون عيشهم.

     وكانت الكهرباء، ذلك الإختراع المستحيل.  ومعها كان إنقطاع التيار الكهربائي عن الناس منذ أن عرف لبنان هذه النعمة – النقمة.

     حتى أصبحت هذه السلطة، أللاملموسة المُنيرة – المُعْتمة “المُكهربة”، وهذه كلمة من إختراعها (السلطة والكهرباء معًا)، الحاضرة الغائبة دائمًا، في المصابيح والبرادات، في المعمل والمحل، في الشوارع والساحات، في المديح والملامة، في السباب والدعاء، في الأفراح والأتراح، في…

     وكما وأنّ كلّ متحكّم بحياة الناس وكلّ مفقود مطلوب ومرغوب و…، شيئًا فشيئًا، بدأت تنخفض، تتضاءل، تخجل من الحضور، تختفي من الأسواق ومن على الشاشات وفي الوعود، ومن مطالب البشر، ومن جهة ثانية، تبتعد عن الناس، متشاوفة عليهم أو متخوّفة منهم، تحرمهم الفرصة تلو الفرصة،… إلى أن أصبح غيابها مسلّمًا به، 24/24، مقبولًا، لا بل، في بعض الحالات،                  مطالبًا به.

     فكان البديل الصناعي التجاري العَوْلَمي الإستثماري النفعي الإحتكاري… ذاك الإختراع: المولّدات.

     ومن تربية مدارس عمل لبنان العجيب، “الخلّاق”، كان في البداية لكلّ مؤسّسة أو بناية مولّد،     ثمّ لكلّ حيّ، ثمّ لكلّ بلدية، ثمّ لكلّ برنامج سياسي إنتخابي إجتماعي “خيري” مولّده.

     وظهرت العدّادات، وما أدرى الوزير الوصي وزملاؤه في الحكومات المتعاقبة، بالعدّادات.  وكانت قرارات حكومية مخالفة للدستور والقانون والصالح العام.  واستحكم، من مفهوم “الحكم الصالح”، إستحكم “المولِّدون”، بحماية القانون المستنِد إلى أحكام الدستور “الميثاقية”، ومعهم المولّدات، إستحكموا بحياة الناس.  وبات ينادي… كلّ على “أمبيره” يصيح، كلّ على “فولته” يطيح، كلّ على “ديسجونكتوره” يبيح، كلّ على منصّته يستريح، وكان الإبداع “الرائد”، من شرائط وشُعَب إلى منصات وأسعار السوق (السوء) والمحروقات، العالمية منها والمحروقين المحليين  …، وكان إختراع لبنان (ولا لزوم لتسجيل براءة إختراع باسمه كون لا منافس له في هذا المضمار ولا راغب فيه) وكانت العبارة الشائعة، المُسلّم بها، المقبولة، المعمول بها من دون نقاش:                              

إذا مشْ عاجْبَك… فِكْ “

     وهكذا، وبكلّ بساطة، ومن دون تدخّل من إيّ جهة رسمية أو نظامية قانونية رقابية أو إدارية أو أخلاقية، يمكن لك أن تغيّر مصدر “رغد” عيشك متى تشاء وكلّ حسب “إقتصادياته”.                     فِكْ شريطك واذهب إلى مصدر غيره وعين الدولة تراك.

     وتَسَلني لماذا هذا الوصف المبرّح كلّه؟

     أقول، وقد لاحت بقربي طروحاتٌ… أيا جاري … من وحي ” إذا مشْ عاجْبَك… فِكْ “، أخذتنا إلى النزعة الإنفصالية الإنفصامية الإنقسامية الإنشطارية الإجتثاثية عند البعض الذي أصبح يُدْمِن سهولة الإنفصال عن الآخر، تباعد بتسميات كثيرة من نوع: تقسيم، فيديرالية، كونفيديرالية، لامركزية إدارية، موسّعة، سياسية، مالية، هندامية، سلوكية وغيرها، والأمر، يُقال، قد وصل حدّه الآن إلى إقتراح تقسيم البلديات.  وفيها، تقسيم بلدية بيروت إلى “شقية” و”غبية”، كما كانت خلال “الحرب”، التي لم تغادر قط  رغبات البعض.  

     وهل يفيد التأكيد أنّ اللبنانيين، وحسب الدراسات العلمية ذي الصلة (*)، يتشاركون في 93% من حمضهم النووي، (ولا علاقة لذلك بالإتفاق النووي)، الأمر الذي يفرض إعادة تحديد مفهوم تقبّل الآخر على أساس تشابه الإنسان بقيمته البشرية وليس بالضرورة قبول سلوكياته ومعتقداته وبالتالي الإبتعاد عن إعتماد الفكرة المُدَمِّرة المتجسّدة بالهوية القائمة على الكراهية وفقًا “للقيم” الشعبوية الحديثة !

ونسأل مع الشاعر: ” لِمَ هذي الشمس لا تدَّخر الدفءَ لقومٍ

                                                 دون قومٍ… لِمَ هذي الشمس ليست فئويَّهْ؟ ” (1)

     ونحذّر، لأنّه بدأت تتشكّل مجتمعات طاردة لمن لا “يشبههم”.  وقريبًا سنقسّم المقسّم حيًّا حيًّا، لكلّ “حيٍّ” حيّة.  وباختصار، بتنا نسمع كلام من نوع: ” إذا مشْ عاجْبَك… فِكْ ” (أو أنّ المعنى هو: فِلّ؟)، أي إنفصل عن هذا “المولّد” وابحث عن “مولّد” آخر يزوّدك بتيار قد  يشبهك !

وبين فِكْ وفِلْ همزة على الحرف الأخير.  همزة يرى فيها البعض صلة وصل، والبعض الآخر (الذي لا يشبه أحدًا) يراها وسيلة فصل.

     وبين الشَبَه والشُبُهة… قسّمناهم أربعين ممّن يشبهونهم… شُبُهةً شُبُهةً.

 

________________________________________________

() إنّ الكلمات الواردة بين “هلالين” قد لا تعني بالضرورة ما تعنيه.

(*) عدد 20 آب 2022 من ملحق “القوس” لجريدة الأخبار.

(1) سليم حيدر – ديوان “إشراق” – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ش.م.ل. – 2016.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى