ثقافة

ما بقي من رسالة الأمس لعام آخر

 

في مطلعِ كلامي
أهدي سلامي
لأهلي
في حيّنا القديم ، 
في حارة النصارى ،
الى ما بقي من  معبد عتيق تحيط به أشجار السنديان ،
باق من زمن الرومان ، 
الى الخربة  حيث اختبأ الصبي الذي كنته ،
إلى رائحةِ الطينِ  وقشِ الحصيد،
الى كلّ ما أتلفه النسيان ،
سلام الى مقبرة الغرباء المجاورة لبيتنا ،
الى أسراب الطير عند المبيت
في غابتنا،
الى جرس الدير الذي يتردد طنينه في بالي ، 
الى جارتنا ، صاحبة الصوت الشجي
والشامة على خدها الوردي .
سلام الى المجنون الذي أمضى عمره يمشي في الدروب كأنه يبحث عن شيء ضاع منه،
هو الشيء الذي ضاع منا ايضا وسميناه الزمان ،
إلى المئذنة الأموية التي كان يصعدها المؤذن  ، في  شتاء   بعيد من زمني الأولي ،
ويدعو بصوته المبحوح لصلاة  الفجر  …

كلّ ذلك تمّ :
يوم كان والدي يبذر القمح وينثره براحة يده  ، كأنه يبارك كوكب الأرض على سخائه ، وينهر زوجًا من الأبقار  لجرّ سكة الفلاحة ، تتفلّع التربة ويفوح عطر التراب .

وفي مطلع كلامي
أهدي سلامي
لقارع جرس الكنيسة في دربي الى مدرسة البلدة المجاورة ، رسبت في الهندسة الإكليدية ، واستاذ الفلسفة قتل في الحرب الاهلية .
سلام لراعي الماعز ،  ولأفراد  قطيعه فردًا فردًا،
لثغاء جديه الصغير  الذي على جبهته غرة بيضاء  ،لكلبه  البنّي   ، لعينيه الحزينتين ، لابنه الغر في القطيع  ،
يُورِدُه الى النهرِ
، ويُدخّن التُتُنَ بالسرِّ .
لابنته زلفة التي تركتها تعشِّب الحقلَ وقلبي، لقطةِ جارتنا المتثائبة على حافةِ ظهيرةِ الامس ،
لغابة الصنوبر ، التي ضاع فيها عمري الأولي  
لذئب يعوي في الريح
كأنه جريح،
لشلعة النساء الذاهبات للعرس ،
للصبيةالواقفة على النافذة  كأنها أغنية لفيروز ،
سلام لتلك الايام حتى آخر دمعة في الكأس ، سلام للحور  عند المغيب ، لشجر البستان الذي يفهم لغة ابي ، ولغة الماء ،
للنبع لمقامات الاولياء ،
ولامي قارئة الغيب  المعاتبة للأيام …
سلام لأهل بلدي
في مسقط رأسي وفي مسقط الاشواق
في قريةٍ  ومدينتين.
لمقهى التل العالي في طرابلس ، حيث تعلمت التدخين وقرأة جريدة الحزب،
الى بيروت حيث ولدت ثانية وتعلمت التسكع في  الكتابة والاقامات الطويلة في العشق ،
سلام  لغرفتي وصحبتي في الجريدة ، الى صورة ماركس المعلقة في غرفة التحرير
قبل وقوع الحرب .
سلام  للعابرين والمقيمين في حياتي الى الصبية التي رافقتني في الدرب .
سلام لصحبتي في مقهى " اللوبمبي"
وفي مقهى الروضة البحري ،  لمن مات منهم ولمن بقي.
سلام لحانة "شي أندريه " للنادل الأرمني ، على جداره  صور  لندماء عبروا  .لصوت اديت بياف لحرف الرا المشدد في rin de rien    كأنها غين او غيم بعيد  فوق السهول ، سلام لمحمد العبدالله   ، لزينبه زميلة الكلام  ، لقصيدته عن بيروت التي جمعتنا وفرقنا الموت ،  لضحكته التي كانت تتدحرج ببطء على الرصيف ،
سلام  لصعاليك ليل بيروت ،
سلام  للبلاد التي كلما حلمت بالضوء  يخرج عليها صاحب  الكابوس الأممي بالتابوت،  يفند فوائد العتمة …
أمّا بعد،
ولدنا هنا مثل الشجر .
وهنا ايضا سنموت .

*روائي لبناني

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى