لنتعلم من قصة المكفوفين الستة والفيل ..فنتقدم!
كم من مرّةٍ وقفت أنظر في المرآة أسأل نفسي "ماذا لو كنت مخطئة في شأن موضوعٍ ما؟ ماذا لو كنت ملمّةً بجانبٍ منه وغابت عني جوانبه الأخرى؟" الأمر الذي جعلني أُخضعُ افكاري دائماً للبحث العلمي والتحاور والمشورة.
أحداثٌ متنوعة جعلتني أقف مرّاتٍ عدة مندهشةً أمام عمل الدماغ البشري وكيف يخدعنا أحياناً ويوهمنا بصوابية رأينا لنكتشف لاحقاً أننا كنا مخطئين.
وليست قصة المكفوفين الستة والفيل، والقديمة قدم التاريخ، سوى نموذج عن محدودية العقل البشري في أحيان كثيرة وجهل الفرد لهذه المحدودية. وهي حالة تعرف بالجهل المركّب اي الحالة التي يكون فيها الجاهل جاهلاً لجهله.
وتروي القصة أنه طلب من مكفوفين ستّة لمس جزء محدّد من فيلٍ ضخمٍ ليتعرفوا إلى ماهيته، فظنّ كلٌّ منهم أن الجزء الذي لمسه هو الفيل بأكمله. وأخذ كل منهم يحاول إقناع الآخرين برأيه دون جدوى، فيما كان المتفرجون يهزؤون مما يرونه أمامهم حتى وصل رجل حكيم فأوقف حالة الاستهزاء ليعطي العبرة للجميع.
إن التساؤلات حول فشل العقل في إدراك الخطأ، وهي حالة يمكن ان تعترض اي إنسان، أصبحت موضوع دراسات وابحاث معمقة في مجال علم النفس الإجتماعي. وازدادت أهميتها بعد وصول الرئيس دونالد ترامب الى سدّة الرئاسة الأميركية. اذ تفاقمت حاجة المفكرين والعلماء الى فهم الأسباب التي أوصلت هذا الرجل الى الحكم.
ولكن ما حصل في أمريكا ليس فريداً، ففي لبنان تساؤلات حيّرت الكثيرين من اللبنانيين ومنها كيف لمواطن اختبر انهيار دولته على يد بعض الأحزاب ان يعيد مجدداً انتخابها؟ وكيف لمرشحين علموا بترشح من هم مؤتمنون على نزاهة الانتخابات النيابية ان يتقدموا ايضاً للترشح وخوض المعركة والتأمل بالفوز؟
هذه التساؤلات اصبح لها تفسيراً علميا ولو أن في الحالة اللبنانية هناك اسباب أخرى لا مجال لذكرها الآن.
في سنة ١٩٩٩ تقدّم عالمان هما دايفيد دانينغ وجاستن كروغر بورقة بحثية إستنتجا فيها أن الدماغ البشري يتضمن بقعاً ميتة تمنحنا الثقة الكبيرة في شأن شخصٍ أو موضوعٍ أو مهارةٍ ما ولكنها في الوقت عينه تحرمنا قدرة التمييز فيما اذا كنّا على صواب او خطأ. ويصبح الفرد بنتيجة هذه الثقة الزائدة والمبنية عادةً على جهل وعدم خبرة في المجال المطروح، عاجزاً كلياً عن إدراك جهله ومتوهماً بالمعرفة. ونذكر ما قاله سقراط يوماً:"إني أعرف شيئاً واحداً، وهو أني لا أعرف شيئاً".
وما ينطبق على الحكام ينطبق كذلك على المحكومين. فبعض الحكام مقتنع أشدّ الإقتناع بكفاءته حتى ولو أن التجربة أثبتت عكس ذلك. أما المحكومون المقتنعون بجدارة زعاماتهم، رغم فشل هؤلاء في تحقيق الوعود التي تقدموا بها، فيتوجب عليهم ان يتوقفوا لبرهة ويعيدوا النظر في آرائهم وقناعاتهم.
ليس هذا الكلام من باب الإنتقاد لأن الإنتقاد في الوقت الراهن لا يبني، بل يعزز الفجوات بين الناس في حين أن الغرض الحقيقي هو السعي الى دعوة الناس الى الانفتاح على بعضهم البعض وتقبل وجود أفكار وآراء مختلفة تستحق البحث فيها.
اما العبرة من القصة هي أننا، ولو أدركنا جزءاً من الحقيقة، فقد لا نكون محيطين بجميع جوانبها وقد تكون بقايا الحقيقة في المقلب الآخر، أي لدى الآخرين الذين لا نريد السماع لهم.
وبذلك نكون بحاجة اليوم، وأكثر من اي وقت مضى، للوداعة الإنسانية وللتواضع الثقافي حتى نتمكّن من توفير القرارات السليمة التي تضمن سلوك لبنان درب الإصلاح الحقيقي.